"أريدُ فلسطينَ حالاً"
هشام خاطر - 25\12\2009
كأن إضافةً من زبد إمتزجت بروحي من جديد وكيانيَ الغضُ تحرك لثوان ٍ في جميع
الإتجاهاتِ ولم يعد ليستقر منذ تلكَ الكلمات.
إقتربت منهُ والدتهُ وطالبتهُ بتكرار ما قالَ لتوه..
"أريدُ فلسطينَ حالاً "
إرتطمت تلك الجملة ثانيةً على وجهها ككرة ٍ مطاطيةٍ ما لبثَ أن إلتقطها ثانيةً ..
كانت أمهُ تكررُ ما يقولُ بحركةٍ من يديها وكأنها تتعلمُ لغةً للبكم, ثم تعودُ إليهِ
لتسمعَ ثانيةً تلكَ الأصوات وتينكَ النبرة التي لا تتغير.
عادت إليهِ في محاولةٍ منها لإستبدالِ مجموع الأصوات في "فلسطين" بِ "حليب" فهذةِ
الأخيرةُ قد يسهلُ لفظها لقلة الأحرفِ فيها وليقينها بأنهُ لا يعي ما يقول ولا مبررَ
يذكر للإصرار على ذلك .. وبكل الأمومةِ المتاحة لديها وبعد أن أغدقتهُ بشيءٍ من عذبِ
روحها تلمّست منهُ أن يرددَ ما ستقول:
"أريدُ الحليبَ حالاً"
فأجاب: "أريدُ فلسطينَ حالاً"
ما هذا اليعربيُ الذي أنجبتُ في ذلك الخريف, فمنذ تلكَ الأيام وطفلنا يكبرُ ولا
يريدُ إلا فلسطين.. كانت لهُ عادةٌ وأصبحت فيما بعد عادتُنا جميعاً. فبعدَ منتصفِ
الليل كان يطلقُ صرخةً ما كانت لتتوقفَ إلا بصفعةٍ مدويةٍ من والدتهِ ولكن على أن
تُصْدِرَ نفسَ الصدى لتلكَ الصرخةِ الأنين حتى ليستيقظَ طفلنا المفجوع من كابوس ٍ
لعين إنتقل بالعدوى إلى أمهِ ومن ثمَّ وصلَ مقتحماً جُلَّ ساعاتي.
هذا هو بالتأكيد يطرقُ البابَ فهو في عجلةٍ دائمةٍ ..
فتحت أمهُ البابَ وعانقتهُ بعدَ أن ملأت وجههُ بحمم براكينها المشتعلةِ شوقاً ..
أصبحَ اليومَ شاباً صنديداً يتعلم في كبرى جامعاتِ العاصمة ولديهِ من المعجبين ما
لرئيس دولةٍ افريقية. دخلَ مِنَ الباب وتوجهَ نحوي فهو يعلمُ جيداً بأنني أخافهُ
وأرتابُ لسماع إسمهِ الذي يحملهُ عن جدهِ. إقتربَ مني وقبلني في وجهي ثلاثَ قبلاتٍ
لم يُخطِيء في واحدةٍ منها يوماً .. جلستُ أراقبهُ وهو يتجولُ في المنزل، فأنا أحبُ
أن أشاهدهُ وهوَ يتدبرُ أمورهُ البسيطةَ ففيهِ مِنَ العزّةِ ما لا أمتلك وما لم
أسعى لإمتلاكهِ في حياتي.
"أريدُ فلسطينَ حالاً"
ما زالَ يقولها حتى اليوم وما زالَ يستيقظُ بعدَ منتصفِ كل ليلةٍ ليقابلَ أحلامَ
طفولتهِ المائلة، ولكني حزينٌ وأنا أراهُ يحملُ تلكَ الغصةِ التي حملتها الأبطال في
دروبِ تيهها نحو أديم الأرض..
ففلسطينُ في ضياع مع كل مطلع شمس وأنت وحدكَ يا بنيَّ خُلِقتَ في هذا العالم وفي
فمكَ ذلكَ السؤالُ البديل عن فلسطين.