«صدر العروس» داوود الجولاني - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


«صدر العروس»
داوود الجولاني - 07\02\2010
محض صدفة كان لقائي باليهودي الأشقر وصاحبته جميلة العينين الخضر والوجه الأسمر، فقد تحينت يوما مشمسا غير ماطر في شهر شباط حتى أذهب إلى أرضي الزراعية في التل المحاذي لطريق الإسفلت، وذلك من أجل أن "أقش" أو "أقشش عنود" وأغصان أشجار التفاح التي تركها المقلمون تحت الأشجار. وحدث أن كان ذلك في النهار السابق لذكرى الإضراب أو لعيد العشاق. وبينما أنا أجمع بكسل وتراخي الأغصان اليابسة فوق بعضها من أجل حرقها توقفت سيارة بيضاء وأشار لي سائقها بيده، فتوقعت أنه مجرد سائح ظل السبيل نحو جبل الشيخ، ويريد مني أن أرشده إلى الطريق، ولكن لم يخطر ببالي أن محادثته سوف تثير فيَّ الرغبة في العمل أكثر والرغبة في العربشة فوق التل أكثر.

تقدمت منه بقدمين ثقيلتين بسبب الوحل الذي علق بحذائي، فلاحظت وجود سيدة جميلة تجلس بجانبه، فرمقتني بابتسامة عذبة كأنها خرجت من شفتي امرأة عربية، مما جعل نظراتي تتشجع وتندس في صدرها ثم تنحسر
وتعود إلى السائق لأجيبه على سؤاله الذي قاله باللغة العبرية:
"هل تدلني إلى الطرق المؤدية إلى صدر العروس"؟
قال صدر العروس بلغة عربية سلسلة وواضحة، فأجبته: " وهل تعرف ماذا تعني صدر العروس باللغة العبرية"؟
فردّ بعد أن رمق صدر صاحبته ثم نظر إليّ ففهمت المغزى.
قلت: "أنت الآن في تلّ صدر العروس بماذا أستطيع مساعدتك" ؟

ترجّل من سيارته فشاهدت بوضوح مسدسه الذي يخفيه وراء ظهره، وقد كان مشهدا عاديا فأغلب اليهود الذين يأتون للسياحة في الجولان يحملون أسلحة، إما بثيابهم أو بحقائبهم، ثم ترجلتْ صاحبته السمراء، فسارعتُ بدعوتهما لشرب فنجان قهوة وقدمت لهما السجائر أيضا.
شربا قهوتي فشكرني السائح قائلا :"أنتم في الجولان لا تجيدون طبخ القهوة وإبقاء رغوتها فوق شفتي صاحبتي فحسب، وإنما تتقنون تحضير الحمّص ودهن اللبنة والزعتر في خبز الصاج المدوّر. فأما الشاي الذي تغلونه فوق الحطب وتسكبونه في كؤوس بيضاء تشبه الثلج فهو شاي مر، وكأنكم لا تعرفون للحلاوة أي طعم. فتعلموا منا مزج الشاي بالبنّ والعسل".
أمام كلامه هذا شعرت أن شكره لي يحمل تكبرا واستعلاءً ولوما ً، وكأننا أصبحنا في نظرهم ندال في مطاعم. فكتمت غيضا اعتمر صدري وبادرتهما بسؤال متمنيا أن تجيب السمراء عنه ويصمت هو.
قلت:
"هل جئتما للسياحة في تلة صدر العروس، فلا شيءَ مهما هنا إلا الأشجار، فإن أردتما التمتع بالثلج فعليكما سلوك طريق آخر نحو الجبل".
فردّ هو وابتسمت هي "نحن لسنا بسواح وإنما جئنا نزور بلادنا".
أمام جوابه هذا أدركت أني سكبت القهوة لسائحين بغيضين فأجبت وأنا أوجه الكلام له:
"من لون بشرتك يبدو لي أنك ولدت في إحدى الدول الأوروبية أما صاحبتك فيخيل لي أنها ولدت هنا".
فردت بسرعة قبل أن يسبقها صاحبها: "أمي ولدت في مدينة حلب".
فقلت: "أنت عربية كما توقعت"، فلم تجب.. ثم وجهت السؤال نحو صاحبها:
"إذا لم تأت للعب بالثلج كما يفعل غيرك، فماذا تفعل هنا على هذا التل"؟

قال:
"في عام 1967 حرر والدي هذا التل وأعاده لي، ورغم إصابته برصاصة أدت إلى عرج في ساقه، حارب في عام 1973 وأبقي التل لي، والآن جئت لأري عروسي هذا التل، ثم سأنصرف لأستمتع بالثلج الذي أنزله الله لي".
أغاضني جوابه وأحرجني.. للحظات تجمدت أعضائي فيها، ولكنى تمالكت نفسي وحدثتها بهمس بيني وبينها:
"كم كانوا ذواقون أجدادنا عندما شبهوا هذا التل بصدر العروس، وكم من عريس نزف فمه قبل أن يقبّل التل".
ثم أجبته بحدة بدت في نبرات صوتي وفي حركات يدي :" أنا لم أحمل سلاحا يوما مثلك، فقد ولدت بعد غزو والدك، ولكن أناس كثيرون من قريتي ماتوا هنا، وأنتم لم تكونوا سوى سائحين، ومثلما كنتم سوف تبقون، فأغرب بوجهك عني، واستمتع بما تشتهي حتى تنتهي مدة ضيفاتك الثقيلة".
فانصرف وهو يردد: "نحن نعاملكم بالحسنى ونوفر الطعام لكم ونعطيك جزءا مما أنعم الله علينا من ماء، ومع هذا تعتبرونا سياحاً لا غير"، وأما هي فمشت بخطوات متثاقلة وكأن الوحل الذي علق بحذائي علق بحذائها، ثم دست بجسدها في السيارة وهي تترك فوق النافذة نظراتي الأولى نحوها.. أما أنا فحملت قهوتي وانطلقت نحو البيت لأحضر نفسي لسهرة المساء.