ذكرى الإضراب... وواقع الحال
الجولان المحتل .. قراءة في معضلات الواقع 9
سيطان الولي - 09\02\2010
انتفضت جماهير الجولان في الرابع عشر من شباط من العام 1982, معلنة عن الإضراب
الكبير ضد قرار الضم المشئوم الذي أعلنته الحكومة الإسرائيلية برئاسة مناحيم بيغن,
وصادقت عليه الكنيست (البرلمان الإسرائيلي ). ليسجل التاريخ مأثرة جديدة لأبناء
الجولان وبطولاتهم في مواجهة المحتلين لأرض الوطن .
كانت الصورة ضبابية لواقع الحالة الوطنية والنضالية لجماهير الجولان قبيل قرار
الإضراب , الأمر الذي شجع حكومة إسرائيل على اتخاذ قرار الضم . فرغم وجود العشرات
من الأسرى في السجون الإسرائيلية , تعبيرا عن حالة نضالية ووطنية متطورة ومتقدمة ,
إلا إن هذه الحالة لم تكن شعبية عامة , وانحصرت بالأسرى المعتقلين أو المحررين
أنفسهم , وبعض الناشطين , وشريحة من المهتمين بالشأن الوطني العام , دون إن يكونوا
بارزين أو معلنين عن أنفسهم .
تميزت تلك المرحلة بشكل من أشكال التفكك الاجتماعي الناتج عن خيبات الأمل المتعاقبة
التي ابتدأت مع الاحتلال ذاته واستمرت إلى ما بعد حرب تشرين , والشعور المتخم
بالهزيمة لعدم تحرير الأرض, وفقدان الثقة بالنفس , والسجالات والمقارنات المنطقية
بين قوانا وقدراتنا الذاتية ومهام الدفاع عن الأرض والهوية والانتماء من جهة, وواقع
الحال للآمة العربية وما هي عليه من ضعف وهوان , وخاصة بعد اجتياح إسرائيل للبنان
واحتلال عاصمتها بيروت . ولسان حال المتشائم يقول :" إذا كان العرب بقواهم لم
يحرروها , نحن سنحررها ؟!!!"
لكن في الوقت الذي كانت المقاومة اللبنانية والفلسطينية تعطي مؤشرات مغايرة ومناقضة
لهذا الشعور , أعطت جماهير الجولان لنفسها أولا , ولقطاع واسع من الأمة العربية
ثانيا , دليلا قاطعا على إن إرادة الشعوب لا تقهر, عندما يتطلب الأمر موقفا حازما
إزاء القضايا المصيرية , وخاصة هذه التي تتعلق بالأرض والانتماء . فتم التغلب على
حالة الوهن والضعف , ورفضت كل المسوغات المؤدية إلى الاستسلام للأمر الواقع , بغض
النظر عن الإمكانيات والقدرات على المواجهة , واندفعت المواقف باتجاه التحدي
والتصدي , وان كلف هذا جل التضحيات المفروضة لإدراك مواقف العزة والكرامة , التي
تؤسس لحياة مأثورة قوامها حرية الإنسان باستعادة الحقوق وتحرير الأرض .
وان لم تتحرر الأرض بعد , فان الأصل, في الموقف الثابت ذاته . وان لم نقف من
المؤسسات الإسرائيلية ذاك الموقف ذاته , فإنما هو واقع الحال الذي يتبدل , ولا
تتبدل ثوابته وأسسه .
فكلنا يلامس ما نحن عليه من تفكك اجتماعي , وكم نحن بعيدون عن الوحدة الوطنية التي
رافقت الإضراب الكبير. فان التطورات في سبل الحياة ومقوماتها , وفي نهضة المجتمع
وتفاعلاته الداخلية وأساليب عمله وظهور المؤسسات الوطنية والاجتماعية والثقافية
والمهنية , وغيرها , أثرت على الحالة النضالية , لمجتمع تميز بمواقفه التي باتت
منهل القاصدين . إن العيب ليس بهذا الكم والنوع من التطورات وأساليب العمل
المؤسساتية , إنما بكيفية استخدامها , فان مجتمعا ريفيا كان يعتمد على الزراعة
وتربية الماشية والعمل بالأعمال الشاقة ويرزح تحت الاحتلال , لم يكن بمقدوره إن
يستخدم وسائل المجتمعات المتطورة – أي العمل المؤسساتي – بتلك السهولة المتوخاة .
فكان لا بد من هذا التخبط والعشوائية والتجربة والخطأ في الأداء, وكان لابد من إن
تبدو الأمور في أسوأ أحوالها , تأسيسا على التفاصيل التي يدركها جميعنا .
وليس هناك صيغةٌ وتوصيفٌ ثابتٌ يمكن القياس عليه , لتحديد إلية العمل الوطني
والاجتماعي , فإن كانت الوحدة الوطنية , بعنوانها العريض , إحدى الوسائل والصيغ
المنشودة لتحقيق أعلى مستوى من الرقي في الأداء الوطني , فانه يغيب عن ذهننا شكل
والية هذه الوحدة , وعناصرها المكونة لها , وتفاصيلها المركَبة منها, لكونها آلية
حية تتبع في تطورها , تطور المجتمع ذاته طرديا , فما كان صحيحا في الأمس , ليس
صحيحا اليوم , ولن يكون مناسبا للغد . فالمجتمع يحمل كل يوم مقومات جديدة , وتغيرات
عديدة , تدفع نحو تطوير الآليات والمفاهيم .
وليس من احدٍ إلا ويتحدث عن الوحدة الوطنية , ويطالب بها ويدعوا إليها . ولكن ...
لا احد – أفراد ومؤسسات – يقرن أفعاله بأقواله , فيغدوا الحديث عن الوحدة الوطنية ,
ضرب من التضليل والمفاضلة , وتصطدم عند التنفيذ بمسوغات , يسوقها طرف ضد الطرف
الآخر, يجد فيها سببا للمراوغة والتهرب من العمل المشترك والموحد .
إن الواقع يقول بأن ثمة مشكلات حقيقية بين التيارات " السياسية" المختلفة في
الجولان تؤثر سلبا على العمل الوطني , وهذا حق . ولكن , الواقع يقول أيضا إن
استمرار" اجترار" هذه المشكلات واعتبارها سببا دائما للخلافات , هو اشد سلبية من
الخلاف ذاته . وقد آن الأوان لإعادة تقييم واقعنا وحصر مشاكلنا , وإيجاد السبل
لتجاوزها , ورسم آفاق مستقبلنا بذهنية جديدة تتناسب مع متطلبات الواقع من جهة ومع
روح العصر والتفكير الجديد من الجهة الأخرى . اخذين بالحسبان إن الأجيال الصاعدة
لها منطقها المستحدث في فهم الأمور الاجتماعية عامة والوطنية على وجه الخصوص , فيجب
إن لا ينحصر تفكير المهتمين بالشأن العام , بما علموه أو ورثوه أو ألفوه من
المفاهيم والآليات والطرق في العمل . فكل جيل يحمل مفاهيمه معه بطريقته . والوطنية
, وان كانت لا تحتمل الكثير من الاجتهاد والتفسير , ولأنها هكذا , يجب عدم تعقيدها
وعدم تهويلها وعدم تحميلها ما لا تحتمل , حتى لا يظن أي فرد في المجتمع انه غير
قادر على الإيفاء بمستلزماته وواجباته الوطنية , بسبب ما يرد إلى ذهنه من مفاهيم
معقدة ومشوشة , أو غير صحيحة في بعض الأحيان , عن الوطنية والعمل الوطني . هذا
إضافة إلى التشوه الذي أصاب المسألة الوطنية , في ذهن الأجيال الصاعدة , نتيجة
الخلافات الدائمة التي لم يعد لها مبرر, فين الفئات المختلفة , وما نتج عنها من
نفور وسخط وعدم اكتراث من قبل قطاع اجتماعي واسع من مجتمعنا , حتى غدت الوطنية
والوطنيين موضوع سخرية واحتقار من البعض , إزاء البعض الآخر , لدرجة إن هذه الأجيال
باتت في حيرة من أمرها بشأن هويتها وانتماءها , نتيجة للممارسات السلبية التي يقوم
بها بعض المهتمين بالشأن الوطني , واحتكارهم "للوطنية" , وتحديد مفاهيمها بما يوافق
هواهم ومصالحهم الضيّقة , وعلاقاتهم النفعية مع من هم على شاكلتهم من الفاسدين
والمفسدين , دون إن يراعوا انعكاس هذه السلبيات على الأجيال الجديدة في المجتمع ,
فيسهل عليهم توجيه الاتهامات والصفات غير اللائقة على من لا يوافق هواهم , بدلا من
العمل بجدية على كسب ثقة هؤلاء وترغيبهم بالعمل الوطني في حدوده الثقافية
والاجتماعية , والعمل الجماهيري العام .
الم يسأل احدهم نفسه لماذا لا يشارك الشباب من الأجيال الجديدة في المناسبات
الوطنية التي نعتز بها ؟ بل الم يسأل احدهم نفسه - بما انه قائم على هذا النشاط أو
ذاك - إن كان مهما بالنسبة له وجود الغالبية العظمى من أفراد المجتمع في هذه
المناسبات ؟ وسبب تغيبهم عنها؟ وإدراك الأخطاء المرافقة لنشاطهم , التي تؤدي فيما
تؤدي إليه نفور المجتمع منهم , ومن النشاط الوطني ذاته؟
وفي المقابل , أتوجه إلى الشابات والشباب من الأجيال الصاعدة بالسؤال التالي : إذا
كان مبرركم لعدم المشاركة في الفعاليات الوطنية , هو سلبيات القائمين عليها
والخلافات التي ترافقها , وإنَّ لكم وجهة نظر في هذا الأمر تتناسب مع مفاهيمكم ,فهل
ابتعادكم عن هذه الفعاليات هو رد الفعل الصحيح؟ وأين فعلكم الخاص النابع من وجهة
نظركم الخاصة ؟ وان كانت لكم انتقاداتكم على النشاطات الوطنية والاجتماعية
والثقافية , فأين البديل من عندكم ؟
هي أسئلة متشابكة, لواقع غير صحي , تحتاج إلى أجوبة تعيد صياغة المفاهيم والبرامج ,
للارتقاء بواقعنا إلى مستويات فضلى .