الجولان.. الحق لا يموت بالتقادم: الإضراب الوطني في وجه
الاحتلال
بقلم: حامد الحلبي - 21\02\2010 (نشر سابقاً في جريدة النور السورية)
جبل صغير يمتد بمحاذاة جبل الشيخ في شمالي الجولان المحتل، اسمه (القاطع)، فوق هذا
الجبل الجميل أقام الاحتلال الإسرائيلي مستعمرة سماها (نَمرود)، مستوحياً اسمها من
اسم شعبي متداول لقلعة (الصُّبَيبة) الواقعة إلى الغرب قليلاً من هذا الجبل، وهي
قلعة كبيرة وعريقة.. وهذه المستعمرة صغيرة الحجم (10بيوت)، وقد مضت سنوات عديدة وهي
على حجمها هذا.
في الثالث من شهر شباط الجاري، قررت السلطات المحتلة توسيع هذه المستوطنة إلى عشرة
أضعاف حجمها، والبدء ببناء أربعين بيتاً فوراً، على أن يتم بناء الباقي لاحقاً.
يأتي هذا الإجراء ضمن النهج التوسعي الاستيطاني الإسرائيلي في الأرض العربية
المحتلة، ومنها الجولان، الذي قررت حكومة الاحتلال مؤخراً بناء تسع مستوطنات جديدة
فيه، على مدى ثلاث سنوات، إضافة إلى الـ33 مستوطنة الموجودة فيه حالياً.
وفق هذا النهج التوسعي ذاته أيضاً، قامت إسرائيل بإصدار قرار ضم الجولان إليها في
14/12/1981، متابعة ما بدأته منذ اليوم الأول للاحتلال عام 1967 ومازالت مستمرة.
وقد طبقت سلطات الاحتلال توسعها في أرض الجولان المحتل كلها، وبضمنها القرى العربية
السورية الباقية في شمالي الجولان، وهي خمس قرى.
ويطول شرح إجراءات الاحتلال، ولكن من عناوينها نذكر: مصادرة الأراضي والمياه،
الاستيطان، فرض الغرامات والضرائب الباهظة على السكان، إلغاء الإدارة السورية وفرض
إدارة إسرائيلية، إلغاء منهاج التعليم السوري وفرض منهاج إسرائيلي مكانه، منع
استخدام السكان لهويتهم العربية السورية، ومحاولة فرض الجنسية والهوية الإسرائيلية
عليهم، باعتبارهم_ وفق إجراءاتها- أصبحوا مواطنين إسرائيليين، وهذا هو الهدف الأول
من قرار الضم، الذي رفضه مواطنونا في وقفة بطولية شجاعة، هي (الإضراب الوطني الكبير)
عام 1982، هذه الوقفة هي التي نستعيدها اليوم بالاعتزاز والتقدير بعد مرور 28عاماً
عليها.
صمود.. مقاومة.. تضحيات
حاول الاحتلال- بعد أن سيطر على الأرض- أن يسيطر على السكان الباقين، واستخدم
أساليب الترغيب والإغراءات، التي ازدراها مواطنونا في الجولان وأفشلوها، فلجأ إلى
أساليب القمع المتعددة، التي واجهها أهلنا بشجاعة، وقدموا في سبيل وطنهم تضحيات
كثيرة وأولها الشهداء، وكذلك الأسرى الذين لم تخلُ منهم سجون الاحتلال أبداً،
وبأعداد كبيرة، والإقامات الجبرية والغرامات المالية.. وغير ذلك.
وأمام ضغوط الاحتلال الكبيرة على مواطنينا من أجل القبول بالجنسية الإسرائيلية،
وقفوا كلهم وقفة موحدة شجاعة، وأعلنوا في اجتماع حاشد لهم في مجدل شمس في 25/3/1981
موقفاً وطنياً سجلوه في (الوثيقة الوطنية) التي جعلوها دستوراً نضالياً لهم، والتي
تؤكد ثوابتهم الوطنية، في عروبة الجولان، وأنه جزء لا يتجزأ من وطنه الأم سورية،
ورفضهم للاحتلال وإجراءاته وإصرارهم على مقاومته حتى يزول.
وفور إعلان قرار الضم أعلن مواطنونا رفضهم القاطع له، وأعلنوا إضراباً احتجاجياً
لمدة ثلاثة أيام، واعتبروا يوم الضم (14/12/1981) يوماً أسود، تستعاد ذكراه
بالحِداد كل عام، وصمموا على استمرار مقاومتهم.
أعلن مجلس الأمن الدولي في اجتماع عُقد بناء على طلب سورية، رفضه لهذا الإجراء
التوسعي وعدّه لاغياً، وذلك في قراره رقم 497 تاريخ 17/12/1981، وكذلك فعلت الجمعية
العامة للأمم المتحدة بعد ذلك. ولكن إسرائيل - كالعادة- رمت هذه القرارات في سلة
المهملات، مستندة إلى عنجهية القوة والدعم الأمريكي لها.
وزادت سلطات الاحتلال في إجراءاتها القمعية، واعتقلت مجموعة من مواطني الجولان،
وصعّدت قمعها، وأصرت على تطبيق قرار الضم الذي يترتب عليه استلام السكان الهوية
الإسرائيلية.
إعلان الإضراب
أمام هذا التحدي المصيري، وقف مواطنونا في الجولان وقفة شجاعة حازمة، فعقدوا
اجتماعاً جماهيرياً حاشداً في 13/2/1982 أعلنوا فيه (الإضراب العام المفتوح) رفضاً
للاحتلال وإجراءاته، ومنها قرار الضم، وتمسكاً بانتمائهم العربي السوري أرضاً وهوية
ومطالبة بإنهاء الإجراءات القمعية وإطلاق سراح المعتقلين.. وأصدروا بياناً بالإضراب
بعنوان (الدعم كل الدعم للجولان المحتل) قائلين فيه: (نحن نقف بصلابة في سبيل
كرامتنا وأخلاقنا الوطنية غير القابلة لأي تغيير أو تبديل، ونرفض الذل والتخاذل،
ولذلك اتخذنا قرارنا بالإضراب العام والمفتوح حتى نحقق مطالبنا).
ونُفّذ الإضراب تنفيذاً شاملاً في قرى (مجدل شمس، مسعدة، بقعاتا، عين قنية)، وشمل
نواحي الحياة جميعها، وامتنع الجميع عن أداء أعمالهم في القرى والحقول، وأُغلقت
المصالح والمحلات التجارية.. ولكن سياسة القمع تصاعدت بالمقابل، مما حدا بصحيفة (هاآرتس)
إلى الاعتراف في يوم 16/2/1982: (يخطئ من يعتقد أنه بالاعتقالات وبغيرها من ممارسات
سياسة اليد الحديدية، يمكن إخماد المقاومة السائدة بين سكان هضبة الجولان). وفي
اليوم ذاته قالت صحيفة (هَمشمار): (ربما تفلح سياسة اليد الحديدية في كسر الإضراب
وملء السجون، لكنها لن تخفف من العداء لإسرائيل).
ومع التصعيد الإسرائيلي، صرح وزير الدفاع الإسرائيلي شارون مهدداً مواطني الجولان
بالطرد (إذا لم يعجبهم القانون الإسرائيلي). ورد أهلنا بإعلانهم في 20/2/1982
استمرار الإضراب حتى تتحقق مطالبهم و(إن الإرهاب لن يخيفنا).
الحصار الشامل
بعد 12 يوماً من الإضراب العظيم، فرضت سلطات الاحتلال في 25/2/1982 الحصار العسكري
الشامل على القرى الأربع المضربة، بهدف خنق السكان وكسر إرادتهم ومحاولة إنهاء
الإضراب، فمنعت التواصل بين القرى، وقلصت كمية المياه الواصلة إليها، وزادت
الاعتقالات، وحجزت المواشي واعتقلت عدداً من الرعاة بينهم نساء، ومنعت وصول المواد
الغذائية إلى السكان، وقطعت إمداد المحروقات رغم فصل الشتاء البارد، وأحرقت مزرعة
أبقار في مجدل شمس، لأن صاحبها كان يوزع الحليب على أطفال القرية، فهب الأهالي
لإطفاء الحريق، وتحول الموقف إلى مظاهرة جماهيرية ليلية حاشدة ضد الاحتلال
وممارساته القمعية المتنوعة.
معركة الهوية
أمام فشل سياسة القمع، لجأ الاحتلال إلى محاولة فرض الهوية الإسرائيلية بالقوة على
السكان.ففي عصر يوم الأربعاء 31/3/1982 دخلت القوات الإسرائيلية إلى القرى الأربع
المُضربة، بأعداد قدرت بـ 16 ألفاً من الجنود، بينما عدد السكان آنذاك كان نحو 13
ألف نسمة، وتوزع الجنود على جميع البيوت والشوارع والأسطحة، وبدؤوا بمداهمة البيوت،
وتوزيع بطاقات الهوية الإسرائيلية بالقوة على السكان، مستخدمين صوراً قديمة لهم
كانت موجودة لدى السلطات منذ أعطوهم بطاقة تعريف تحت الحكم العسكري.
وكان رفض هذه الهويات شاملاً وحاسماً بين جميع السكان، فرموها في وجوه الجنود، أو
مزقوها وداسوها بالأرجل.. ودام هذا الوضع طوال اليومين التاليين.. وحصلت اشتباكات
عديدة مع الجنود، نتج عنها ضرب وكسر العشرات، وجرحى بسبب إطلاق النار من الجنود، مع
حالات عديدة من الإغماء بسبب قنابل الغاز التي أبطل الكثيرون مفعولها باستنشاقهم
البصل، وتصاعدت الاعتقالات.. وجرت هذه المواجهات في القرى الأربع كلها (مجدل شمس،
مسعدة، بقعاتا، عين قنية)..واستطاع المواطنون انتزاع الأسلحة من بعض الجنود وضربوا
عدداً آخر منهم، ثم جرى تسليم هذه الأسلحة مقابل إطلاق سراح الشبان المعتقلين في
المدارس التي حولها الجيش الإسرائيلي إلى معتقلات.. وصباح يوم السبت 3 نيسان توقفت
حملة القمع، بعد أن فشلت حملة توزيع الهويات فشلاً ذريعاً. وفي 5 نيسان 1982 رُفع
الحصار عن القرى المضربة وبقيت قوات الشرطة تجوب الشوارع مع بقايا الهويات
الإسرائيلية الممزقة التي يلعب بها الأطفال والهواء.. وبقيت هتافات المواطنين تدوي
في أسماع جنود الاحتلال وقادته وفي سماء الجولان قائلة: (المنية ولا الهوية)
و(وحياة تراب الجولان.. ما منستلم الهوية!)، و(الجولان سورية.. وفلسطين عربية)،
و(بالروح بالدم.. نفديك يا جولان) وغيرها.
التضامن مع أهالي الجولان
كان للموقف البطولي لأحرار الجولان صدى واسع في فلسطين والوطن الأم سورية والوطن
العربي والعالم، وقد تشكلت لجان التضامن معهم في فلسطين، فأرسلت المعونات إلى
الجولان من الأدوية والغذاء، ولكن السلطات لم تسمح لها بالوصول، واستطاع مرسلوها أن
يوصلوها إلى القرى المحاصرة تهريباً، وعبر الطرقات الجبلية الوعرة.. وجرت تغطية
إعلامية جيدة من قبل وسائل الإعلام الفلسطينية التي استطاع مراسلوها الوصول تهريباً
إلى القرى المحاصرة في الجولان، وعن طريق هذه الوسائل، وصلت أخبار الجولان والإضراب
والمواجهات إلى العالم.. ومن أشكال ذلك التضامن كانت الاجتماعات والمظاهرات المؤيدة
لأهالي الجولان التي نظمها عرب فلسطين وخاصة الفعاليات والقوى التقدمية منها، وشملت
هذه النشاطات معظم مدن فلسطين.
استمر الإضراب وأنجز السكان خلاله الأعمال الضرورية جداً فقط، ومن ذلك قيامهم
بتقليم أشجار التفاح جماعياً من قبل قسم منهم، والباقون استمروا في الإضراب، مما
حدا بجريدة (السفير) اللبنانية أن تعلّق على هذا الخبر بعنوان (كومونة زراعية في
الجولان المحتل).
بعد أن حقق الإضراب أهدافه الأساسية، وفشل فرض الهوية والجنسية الإسرائيلية على
السكان، أعلن مواطنونا تعليق إضرابهم، وأعلن ذلك الشخصية الوطنية البارزة المرحوم
الشيخ سلمان طاهر أبو صالح في 20 تموز 1982 بعد أن دام 157 يوماً متواصلة.. وهو
الزمن الأطول للإضرابات الوطنية في تاريخ سورية كله.
وتعقيباً على الإضراب، قال الدكتور عبد الستار قاسم من جامعة النجاح في نابلس: (لقد
سطر أهلنا في الجولان أسمى معاني العمل الجماعي والتعاون المتبادل، ونبذ الذات،
والمحافظة على الصالح العام. فقد تعاهد الناس مع بداية الإضراب على التعاون، وتقاسم
الرغيف.. بهذه الروح انتصر الجولانيون، وبها أيضاً ضربوا مثلاً بطولياً للشعوب،
وسطروا أروع صفحات التاريخ العربي المعاصر. لقد تحمل أهل الجولان الألم، وفي
المقابل حَمَلهم التاريخ نبراساً إلى الأبد).
استمرار الصمود
اختتمت فصول ملحمة الإضراب العظيمة، ولكنها باقية بروحها الوثابة الملتهبة، إذ
يستمر كفاح أهلنا الوطني ضد الاحتلال، هذا الكفاح الذي يتغذى نسغه من تاريخ عريق في
مقاومة الاحتلالات، سواء كان العثماني منها أم الفرنسي. ويستمر أيضاً التضامن
المتبادل مع عرب فلسطين- إخوة الكفاح- ضد العدو المشترك، رغم المعاناة الكبيرة تحت
الاحتلال، ومنها - على سبيل المثال- التمزق الأسري بين العائلات في الجولان المحتل
والوطن الأم سورية.
وتستمر بالمقابل روح التوسع الإسرائيلي.. ففي بداية الشهر الماضي من هذا العام،
تداول الكنيست الإسرائيلي ما عرف بـ(مشروع قانون الجولان) الذي يقضي بأن أي انسحاب
من الجولان المحتل يستلزم تأييد 80 عضو كنيست (أي ثلثي الأعضاء).. وهذا يعني عملياً
رفض الانسحاب.. ولهذا فإن إجبار إسرائيل على الانسحاب يلزمه قوة تجبرها على ذلك..
والقوة العسكرية هي أحد أشكال القوة وليست جميعها. ومن أشكال القوة غير العسكرية:
قوة الموقف، والعصيان المدني، والصمود، وهذه الأشكال نفذها أهلنا في إضرابهم الوطني
الكبير، ولكن المواجهة مع إسرائيل تحتاج إلى موقف عربي شامل موحد يصر على الثوابت
الوطنية والقومية، ويعتمد أشكال القوة المناسبة.
وإذا كان الإسرائيليون يحبون اسم (نمرود) وأطلقوه على إحدى مستعمراتهم، فإنهم
يعرفون جيداً أن النمرود - حسب الأسطورة- ملك طاغية، ظلم الناس وبطش بهم، فأرسل
الله حشرات صغيرة دخلت أذنيه وأنفه، وأكلت دماغه.. فمات.. وأصبح عبرة لمن يغتر
بغطرسة القوة، وأنه لا يمكن الجلوس فوق عرش من الرماح إلى الأبد.. والمقاومة طبعاً
ليست بالحشرات الصغيرة، بل بالإرادة الوطنية الواعية العقلانية المخلصة الجامعة.
إن تاريخ الاحتلال الإسرائيلي في الجولان المحتل منذ 43 عاماً، يقابله تاريخ
المقاومة والصمود العظيم لأهلنا هناك.. وهي مسيرة مستمرة ولن تنتهي إلا بزوال هذا
الاحتلال وعودة الجولان كاملاً غير منقوص إلى وطنه الأم سورية. ويبقى الإضراب
الوطني الكبير في الجولان نبراساً شامخاً يهتدي به أبناء الجولان، وهم يثبتون كل
يوم أن الحق لا يموت بالتقادم.