المْعلّمونَ
بُناةٌ حقيقيّونَ
المعلم نايف ابراهيم
بمناسبة يوم المعلم - 07\03\201
قِيلَ:وقفَ كسرى على فلاّحٍ يغرسُ نخلاً,وقدْ طعنَ في السّنِّ. فقالَ لهُ كسرى
متعجّبًا منهُ :أيّها الشّيخُ! أتأملُ أنْ تأكلَ منْ ثمرِ هذا النّخلِ,وهوَ لا يحملُ
إلاّ بعدَ سنينَ كثيرةٍ,وأنتَ قد فنيَ عمرُكَ؟فقالَ :أيّها المْلكُ! غرسوا فأكلْنا
, ونغرسُ فيأكلونَ!فأعجِبَ كسرى بهذا الْقولِ, وأعطاهُ ألفَ دينارٍ.أخذَها الْفلاّحُ
قائلا:أيّها المْلكُ ما أسرعَ ما أثمرَ هذا النّخلُ!فاستحسنَ كسرى حكمتَهُ , وأعطاهُ
ألفَ دينارٍ أُخرى.أخذَها الْفلاّحُ,وقالَ:أيّها المْلكُ !وأعجبُ منْ كلِّ شيءٍ أنَّ
النّخلَ قدْ أثمرّ السّنةَ مرّتينِ!فاستحسنَ كسرى ذلكَ ,وأعطاهُ ألفَ دينارٍ
أُخرى,ثمَّ تركَهُ ,وانصرفَ.
إذا كانَ الْفلاّحُ قدِ استحقَّ التّكريمَ على عملِهِ وأملِهِ فأينَ نحنُ منْ
الّذينَ يبنونَ الإنسانَ!والإنسانُ منطلقُ الْحياةِ وغايةُ الْحياةِ!أينَ نحنُ منْ
أولئكَ الّذينَ يؤدّونَ الرّسالةَ بكلِّ أمانةٍ ومسؤوليّةٍ,فيصطلونَ بنارِها لتهتديَ
الأجيالُ بنورِها, ويفنونَ أنفسَهمْ لتحيا بلادُهم بالْعلمِ الإيمانِ.
وما المْعلّمونَ إلاّ شمعةً | |
تلطّفُ أوّارَها الآمالُ | |
فيصطلي المْعلّمُ بنارِها | |
لتهتدي بنورِها الأجيالُ |
وقدْ صدقَ أميرُ الشّعراءِ (أحمد شوقي)حينَ قالَ:
قمْ للْمعلّمِ وفّهِ التّبجيلا | |
كادَ المْعلّمُ أنْ يكونَ رسولا | |
أعلمْتَ أشرفَ أوْ أجلَّ منَ الّذي | |
يبني ويُنشئُ أنفسًا وعقولا |
فربَّ كلمةٍ تخلُقُ جبّارًا
!وأُخرى تُحطّمُهُ.
وقالَ شاعرُ الْجولانِ (الأستاذ سليمان سمارة):
مَنْ يمنحُ النّشءَ الْجديدَ ثقافةً جيلا فجيلا |
إنَّ المْعلّمَ روضةٌ غنّاءُ تجتذبُ الْعقولا |
ليسَ المْعلّمُ إنْ تسامى عقلُهُ إلاّ رسولا |
كلُّ المْهنِ شاقّةٌ وشريفةٌ
.لكنَّ أشقّها وأشرفَها منْ غيرِ شكٍّ مهنةُ التّعليمِ!فهيَ أشرفُ المْهنِ لأنّها
أبعدُها عنِ الأنانيّةِ ,وأشدُّها إنكارًا للذّاتِ ,وأكثرُها دقّةً
ومسؤوليّةً.فالمْعلّمُ لا يعيشُ لنفسِهِ,بلْ لتلاميذِهِ ولا يدرسُ ويتعلّمُ وينقّبُ
ويسهرُ اللّيلَ إلاّ ليحملَ ثمراتِ عملِهِ إلى هؤلاءِ الّذينَ ينتظرونَهُ على مقاعدِ
الدّراسةِ. وذلكَ دونَ ميلٍ أو تمييزٍ أو تفريقٍ.فيروّضُ نفوسَهم على المْكارمِ
والأخلاقِ الْحميدةِ,ليكونوا سادةً محبوبينَ مباركينَ,يُفيدونَ أنفسَهمْ وأهلَهمْ
ومجتمعَهمْ ووطنَهمْ, فيجلو أفكارَهمْ ,ويوقظُ مشاعرَهمْ,ويُحيي عقولَهمْ,ويُرقّي
مداركَهمْ,ويسلّحُهمْ بالْعلمِ والمْعرفةِ ليفتكوا بالْجهلِ,وبالْحقِّ أمامَ
الْباطلِ,وبالْفضيلةِ ليقتلوا الرّذيلةَ,فيفتحُ أمامَهمْ أبوابَ الرّجاءِ ,ليجعلَ
أيّامَهمُ مراقيَ نجاحٍ وفلاحٍ.وما أنْ يمضيَ منْ أمامِهِ فوجٌ حتّى يحلَّ محلَّهُ
فوجٌ جديدٌ.يُعاودُ معَهُ المْعلّمُ سيرتَهُ الأولى. وهكذا تمرُّ الأعوامُ ,وتتخرّجُ
الأجيالُ,فينشأُ منها الأبطالُ والأدباءُ والمهندسونَ والأطبّاءُ ,يقتحمونَ معركةَ
الْحياةِ بكلِّ ثقةٍ وشرفٍ,يحاربونَ بالسّلاحِ الّذي وضعَهُ المْعلّمُ في
أيديهمْ,فإذا همُ أسماءٌ برّاقةٌ في شتّى آفاقِ الْحياةِ ,وأمّا هوَ فلا يزالُ
يُنشئُ أجيالا جديدةً ,واسمُهُ مغمورٌ.
وهيَ أشقُّ المْهنِ,لأنَّ المْعلّمَ يعملُ دونَ راحةٍ أو هدنةٍ.فهوَ أبدًا يشرحُ
ويناقشُ,ويعلّمُ ويهذّبُ ,وعشراتُ الْعيونِ محدقةٌ إليهِ,وعشراتُ الآذانِ مصغيةٌ
لكلماتِهِ.وهوَ يواجهُ في كلِّ ساعةٍ مشكلةً ,لا يشعرُ بها سائرُ النّاسِ.فهناكَ
التّلميذُ الّذي ينتظرُهُ على هفوةٍ , فلا بدَّ للْمعلّمِ منَ الْحيطةِ
والْحذرِ.وهناكَ التّلميذُ الّذي ينظرُ ولا يرى, ويُصغي ولا يفهمُ, ولا بدَّ
للْمعلّمِ منْ إيقاظِهِ وبعثِ الْحياةِ في جسمِهِ المْتراخي.وهناكَ التّلميذُ الّذي
انغمسَ أبواهُ في شؤونِ الْحياةِ طمعًا في مالٍ أو جاهٍ أو مركزٍ ,ولمْ يجدوا
متّسعٍا منَ الْوقتِ للاهتمامِ بهِ والأخذِ بيدِهِ.ولا بدَّ للْمعلّمِ أنْ يحلَّ
محلَّ أمّهِ وأبيهِ وأختِهِ وأخيهِ.
هذا إلى دروسٍ يجبُ أنْ تُحضّرُ , وفروضٍ يجبُ أنْ تُصحّحُ, وميزانٍ يجبُ أنْ
يُمسكَهُ المْعلّمُ بيدِهِ ,فيحكمَ على هذا وذاكَ بوحيٍ منَ الْعدلِ والْعقلِ.هذا
بالإضافةِ إلى أعمالٍ وواجباتٍ عديدةٍ لا يُحيطُ بها ولا يُدركُها إلاّ مَنْ مارسَ
مهنةَ التّعليمِ.
فليطمئنَّ الآباءُ وليعلموا أنَّ أبناءَهمْ بخيرٍ.وأنَّهمْ في عهدةِ أيدٍ أمينةٍ
تُباركُهمْ ,وتشدُّ على أيديهم,وعيونٍ ساهرةٍ تحرسُهمْ وترعاهم, وترى فيهمُ أبناءً
بررةً, ورجالَ المْستقبلِ الْواعدِ.
هذِهِ المْهنةُ الشّاقةُ ,هذِهِ المْهنةُ الشّريفةُ المْنعزلةُ عنْ ضجيجِ الْحياةِ
,أينَ نحنُ منْ إدراكِها ,بلْ أينَ نحنُ منْ قدرِها ورفعِها إلى المْنزلةِ الّتي
تستحقُّ.
إنَّ المْدرسةَ حقًّا توفّرُ للأبناءِ الْعلمَ والمْعرفةَ والثّقافةَ,إلاّ أنَّ
مهمّتَها تظلُّ ناقصةً ما لمْ تُكملْها حركةٌ تربويّةٌ بيتيّةٌ.فالمْسؤوليّةُ جسيمةٌ
حافلةٌ بالالتزاماتِ والتّوجيهاتِ والإرشاداتِ,فهيَ بأمسِّ الْحاجةِ في كلِّ زمانٍ
ومكانٍ لتظافرِ جهودِ كلِّ منْ يهمُّهُ الأمرُ.وكلّما زادَ التّعاونُ كلّما كانَ
النّجاحُ أكبرَ وفي وقتٍ أقصرَ.
وبالمْناسبةِ فإنّنا نكنُّ كلَّ الاحترامِ والتّقديرِ لأولئكَ الّذينَ يتعاونونَ معَ
المْدرسةِ.كما أنّنا نثمّنُ عاليًا مساهماتِهمُ المْاديّةَ والمْعنويّةَ لما فيهِ
سعادةُ الأبناءِ ونجاحُهمْ,وهوَ أمنيتُنا وحلمُنا الأكبرُ.
وليسَتْ حياةُ المْرءِ إلاّ أمانيا |
|
إذا هيَ ضاعَتْ فالْحياةُ على الأثر |
أيّها المْعلّمونَ حسبُكمْ فخرًا وجزاءً وشرفًا أنَّ الْعالمَ صنعُ أيديكمْ .وأنّكمْ الآباءُ والأمّهاتُ والأخوةُ والأخواتُ لجميعِ الطّلاّبِ على اختلافِ مراتبِهمْ ومشاربِهمْ.وحسبُكمْ شرفًا وغنىً أنّكمْ تملكونَ منَ النّفوسِ والْعقولِ والمْشاعرِ النّبيلةِ بعددِ مَنْ تُعلّمونَ وتُهذّبونَ منَ التّلاميذِ.واعلموا أنَّ اللهَ سيرى عملَكمْ والمْؤمنونَ.فلنْ تذهبَ جهودُكمْ سدىً. فما تلاميذُكم إلاّ فروعٌ طيّبةٌ منْ أصولٍ طيّبةٍ, ستزهرُ وتثمرُ منْ حيثُ تدرونَ , ومنْ حيثُ لا تدرونَ. ستزهرُ علمًا ومعرفةً, سناءً وسنىً , وستثمرُ حبًّا وثناءً عليكمْ, ودعاءً لكمْ أنْ يجزيكمُ اللهُ خيرًا ويحفظَكمْ ويرعاكمْ ذخرًا علميًّا وتربويًّا للْبلادِ والْعبادِ .عندَها ستجدونَ منْ سعادةِ النّفسِ وحبورِها بهذا الْعزاءِ وهذا الرّجاءِ ما يجدُهُ الصّالحونَ إذا ذُكِروا في المْلأِ الأعلى.