ذكريات مع المعلم الشهيد كمال جنبلاط
إعداد: يوسف حمود السيِّد أحمد - 21\03\2010
لا أريد أن أكرر كتابةَ ما يَعرفُه الكثيرونَ من صفاتِ هذا العَلمِ الذي قلَّ
نظيرُهُ، ولكنِّي أردتُ أن أذكرَ بعضَ المشاهداتِ الشخصيةِ التي عايشتُها وعَرفتُها
عن قربٍ، فقد كنتُ محظوظاً لأنّني رافقتُه لسنتين متواليتين من 1975 وحتى 1977 أي
للحظةِ وفاتهِ، وكان لهذه الذكرياتِ التأثيرُ الكبيرُ في نفسي وفي نفس غيري ممن
شهدها وعاشها.
كمال جنبلاط .... كان أمَّةًً
في رجلٍ
"لم يكن كمال جنبلاط سياسياً، ونائباً، ووزيراً، ورئيسَ حزبٍ، ورجلَ دولةٍ فقط بل
هو أكبر من ذلك هو الإنسان، والمفكّر، والأديب، والشاعر، والفيلسوف، والمتصوِّف. كل
هذه الصفات اجتمعت في انسجامٍ وائتلافٍ غريبين في رجلٍ هو هِبة وبركة للإنسانية.
في الساعة الثامنة من صباح يوم السادس عشر من آذار من العام 1977 ، وقف كمال جنبلاط
أمام مدخل قصره في المختارة ، وتحديداً على "سُفرة " الدرج الطويل المؤدي للقصر،
ليودعَ أحدَ كوادر الحزب التقدمي الاشتراكي الذي كان مسافراً إلى دمشق ، على رأس
وفد من الحزب لإجراء محادثات هناك، ودَّعه مصافحاً، ونزل الشاب على الدرج، وما إن
وصل إلى منتصف الدرج الطويل، حتى ناداه المعلم وقال له: ارجع قليلاً، فعاد الرجل
ظناً منه أن المعلم تذكَّر شيئاً يريد أن يقوله له، فعاد. وما إن وصل حتى بادره
المعلم بقوله: أريد أن أودعك لعلِّي لن أراك ثانية!! فهلع الرجل وقال له: لماذا
تقول هذا يا بيك؟؟ قال له: لا تقلق، لا شيء لا شيء. وبادر لمعانقتة، فبادله العناق
وانصرف.
في الساعة العاشرة من نفس اليوم 16/3/1977 وصلتني جريدة "الأنباء" الناطقة بلسان
الحزب، والتي كانت تصدر بشكل دوري، ويتصدرها المقال الافتتاحي للمعلم كمال جنبلاط،
وفي كل عدد من أعداد الجريدة، كنت أبادر فوراً وبشوق لقراءة المقال الافتتاحي الذي
ينير أمامنا الأوضاع السياسية في لبنان والعالم العربي، كما كان يراها ويحلِّلها.
وكان المقال سياسياً كالعادة، محللاً فيه الوضع الراهن، ولكن الملفت للنظر أنّه
خَتَمهُ بالجملةِ الغريبةِ التالية: " ألّلهمَّ اشهد أنني بُلغت" .
في الساعة الثانية والربع تقريباً، من نفس اليوم 16/3/1977 وبينما كان كمال جنبلاط
في سيارته ومعه رفيقيه حافظ الغُصيني وفوزي شديد، منطلقاً من المختارة إلى بيروت
لحضور جلسة مجلس النواب، وما إن وصلوا إلى أحد المنعطفات بين قريتي بعقلين ودير
دوريت، حتى انهمرت عليه رصاصات الغدر من مدفع رشاش محمول كان قد ثُبِّت بين الصخور
المقابلة للمنعطف فأردَتهم جميعاً، و"قامت القيامة" في جبال الشوف، ودفع الكثير من
الأبرياء ثمناً لهذا المصاب الأليم ولهذه الجريمة النكراء، بينما الجاني راح يراقب
من بعيد ويشرب نخب انتصاره.
لا أريد أن أغوص في تحليل هذه الأحداث وأستكشاف الرابط بينها، والتي حدثت بيوم واحد،
بالرغم أنني أرى أن هناك الكثير من الأمور التي تربط بينها،
ولكن أقتبس بعضاً من أقوالهِ والتي تدلُّ على جوهر نفسه ومدى تفكيره:
"من تهرَّبَ من معركةِ الحياةِ كمن تهرَّبَ من معركةِ الحقّ".
"الحياةُ انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء".
"ليست الحياةُ توسُّلاً، ولا استجداءً، ولا استعطافاً، إنّها قوة خالقة وفعّالة
باستمرار، تدفع بالكائن الحي نحو التكامل ونحو صيرورته التامة – فكرٌ وروحٌ وإشراقُ".
كتب عنه العلاّمة الشيخ المرحوم عبد الله العلايلي وهو أحد الرجالات السبعة الذين
أسسوا الحزب التقدمي الاشتراكي مع جنبلاط، في مقالةٍ كانت بعنوان: "أبناء الطين
وأبناء اليقين": قال: "أمّا أنّه إنسان غير عادي، فهذا ما يمكنني أن أقطع به، وذلك
أنني كنت معه في سيارته يوم انطلقنا إلى زحلة لافتتاح فرع للحزب هناك وكان ذلك
بتاريخ 15 تموز سنة 1951، فجأة وعلى غير انتظار قطع ما كنّا منهمكين فيه من حديث
حول مفهوم التاريخ، وراح يتمتم بابتسامته العذبة لكأنَّما هو يناجي نفسه، أو يناجي
ما ليس بمنظور عند منطرح الآفاق: أتعرف أنّني سأموتُ قتلاً؟ فضحكتُ يومذاك ضحكاً لا
عهد لي بمثله. فقلت ولم أزل موصول الضحك الذي استبدَّ بي: وما أدراكَ؟ فأجابني ولم
تتغيّر نظرته الشَرود ولم تُزايل الابتسامةُ ثغرَهُ، فتنزلقُ إلى تجهُّمٍ: إنّها
دخيلةُ نفسي تساورني بهذا الحس مساورةً، إنْ حسبتَهُ حدساً أو حلمَ يقظةٍ أو وساوسَ
غدٍ مجهولٍ، لا أدري – ولكني أراه كشيء مسطور".
(هذا الحدس بالموت ذكره جنبلاط قبل وفاته بستٍ وعشرين سنة!! ).
كان كمال جنبلاط رجلَ الغدِ، فقد عملَ على دفعِ الحاضرِ نحو المستقبلِ، وتجاوزِ
انتماءاتهِ من زعيم لطائفة إلى زعيم وطني، ثم إلى زعيم عربي، إلى شخصية عالمية، فقد
كان مرشداً اجتماعياً وأحد أعلام الإنسانية الكبرى، فقد كان من الشعب وإلى الشعب،
يتألم لآلامه ويعيش مآسيه، أباً للمساكين والمظلومين والمحرومين، ونشيداً على شفاهِ
المعذبين.
عاش حياةَ تقشّفٍ، وشرَّع أبواب داره للناس دون تفريق بين منطقة وأخرى، أو بين
طائفة وأخرى، وفتح قلبه لكل مشاكل اللبنانيين والوطن العربي، ولا يقبل الغلط، أعرف
أسرةً من عائلة كبيرة، كثيرة العدد وذات سطوة، في إحدى قرى الشوف، وكانت هذه
العائلة تؤيده باستمرار في الانتخابات وفي الآراء، وكان لهذه الأسرة ولد يتعلم بمصر،
وقد تورّط في إحدى سفراته مع عصابة لتهريب المخدرات، وأخذ معه كمية من المخدرات
لينقلها من لبنان إلى مصر مقابل مبلغٍ ما، وقُبض عليه في مطار القاهرة الدولي،
وحُكم عليه بالسجن 25 سنة، فجاء أفراد الأسرة والعائلة الكبرى متوسِّلين إلى كمال
جنبلاط، ليتوسط لابنهم لدى الرئيس جمال عبد الناصر، لإخراجه من السجن، فاستغربَ
الطلب، ورفضَهُ، وأنَّبَ أفرادَ الأسرة، وقال لهم: إن موقف ابنكم وموقفكم معيب
للغاية فكيف تقبلون أن أتكلم مع الرئيس عبد الناصر بموضوع كهذا، بل بالعكس سأوصي
بزيادة الحكم لمن يقوم بأعمال كهذه، وهو يعرف تماماً أنه سيخسر تأييد هذه العائلة
بالتأكيد.
كان عقلُ كمال جنبلاط متفتِّحاً لجميع التيارات، متعمِّقاً بالعلم، فانكبَّ على
مؤلفات العصر والتيارات الفكرية والروحية يغذّي بها روحه وعقله. فقد قرن العلم
بالأدب، والشعر بالروحانيات والسياسة، ففي أحدِ برامج تلفزيون لبنان كان هناك
برنامج تقدمه سيدة مصرية تدعى ليلى رستم، والبرنامج مخصصٌ للكلام عن المشاهير، وقد
خصصت حلقة منه عن كمال جنبلاط، فاستقبلت أحد الوزراء اللبنانيين فيه، لتسأله ماذا
يعرف عن جنبلاط، فقال: أنه كان في الصين ضمن وفد لبناني برئاسة جنبلاط، ومما قاموا
به زيارة لجامعة بكين حيث استمعوا لتفاصيل نظرية وضعها علماء الصين في مجال
الاكتشاف الجغرافي والنشاط النووي، وقد قال الوزير: "كان أغلبنا يستمع دون أن يعرف
الكثير عن تفاصيل القضية التي يتم شرحها، بينما جنبلاط يستمع بشغف، وفجأة وقف كمال
جنبلاط وقاطع كبير العلماء وخالفه الرأي وقال له: يظهر في تركيب النظرية خطأ ما،
وإذا لم يتم التنبّه له فقد يؤدي إلى كارثة، وتقدم من المنصة والحائط الذي يحوي
الشرح ووضَّح لهم الخطأ، وقال الوزير: اندهشنا لملاحظة كمال بيك وخِفنا من هذا
الاعتراض، فهل يُعقل أن يقعَ علماء كهؤلاء بهكذا خطأ؟ ولكن بعد توضيحه وملاحظته،
اعترف العلماء أنَّه فعلاً كان هناك خطأ ما وتمَّ استدراكه.
مرَّ كمال جنبلاط بمرحلة من التديُّن والتصوف، أطلَّ فيها من المحدود إلى اللامحدود،
ومن المتناهي إلى اللامتناهي، ومن الزائل والنسبي إلى الخالد والمطلق، ومن الإنسان
إلى الله. ساعده على ذلك إيمانه بالعقل كمرشد للبشرية، وإدراكه لجوهر الرسالات
السماوية وتأثره بها عملاً لا قولاً إذ كان لا يجهل شيئاً.
اعتُبرَ تصوُّفهُ تطهيراً للنفس، وتحقيقاً للسعادة الروحية والكمال الأخلاقي بخاصة
إذا تَعقْلنَ التصوف وأطلَّ على الأديان جميعها التي تتوحد في النهاية رغم اختلافها
في المنهج والممارسة. وقد صبَّ تجربته الروحية في كتابيه " فرح " وهو ديوان شعر
وهناك كتابان طُبعا ونُشرا بعد وفاته من قبل الدار التقدّمية للنشر، وهما: " آفاق
نورانية " وهو كتاب نثري يُبحر جنبلاط من خلاله في الذات، ومصير الإنسان والدين
والموت والتقمّص. والثاني كتاب شعري بعنوان: "وجه الحبيب " وهو استكمال لمسيرة
الفرح التي بدأها في ديوان فرح، لأنه يجمعُ بين كلماته " يراعات المشاهدة " كما
وصفها وكيف تُرى في عين الرائي المحدّقة في حقيقة الوجود، وفي ماهية الأنا.
أمّا ديوان " فرح ": فقد قال عنه الفيلسوف الكبير ميخائيل نُعيمة في المقدمة التي
كتبها له: "يتضمن هذا الكتاب أناشيد صوفية نظمها رجل يُدهشك منه تعدد نزعاته
واتجاهاته ونشاطاته. فهو في صميم السياسة اللبنانية والعربية على ما في تلك السياسة
من تشويش والتواء وخبط عشواء. وهو مؤسس "الحزب التقدمي الاشتراكي" ورئيسه، ومحرر
المقال الافتتاحي في الصحيفة الناطقة بلسان الحزب، وهو فوق ذلك، الرجل المتصوف الذي
يتعشق الحكمة ويستقيها من مصادرها التوحيدية الدرزية المباحة ب "العقلاء" والمحجوبة
عن الدهماء" وكذلك من المصادر الإسلامية (الغزّالي، الحلاّج وغيرهما) والسيِّد
المسيح، وكبار القديسين، وحضارات مصر القديمة ( أمنحوتب الرابع ) وفلاسفة اليونان
والهند وبخاصة من " الفيدا " الهندية وما تفرّع منها من ضروب اليوغا والفيدنتا –
أدفيتا.
فيقول في أحد تأملاته ورحلاته الصوفية في ديوان "فرح ":
أموتُ أو لا أموت، فلا أُبالي | |
فهذا العمر من نسج الخيالِ | |
هي الأيامُ تجـــري في دمانا | |
أمِ الحق المكوّن ألف حال؟ |
الحديث عن كمال جنبلاط يطول،
وقد لا تتسع له الكتب، ولكن لابد لي أن أذكر هذه الحادثة كما حصلت أمامي، فقد كنت
ساهراً مع بعض الرفاق في مركز الحزب الاشتراكي في الساعة الثانية عشرة ليلاً من
ليالي شتاء سنة 1976 ووقتها كانت حرب الجبل بين الحزب التقدمي الاشتراكي والقوات
الانعزالية في منطقة المتن على أشدها، وإذ بكمال بيك يدخل إلى مركز الحزب عائداً
بعد تفقد المناطق القتالية، وكانت الليلة باردة جداً، وكان البيك في أقصى حالات
التعب والإرهاق، يلف حول رقبته شماخاً أحمر ليتقي البرد. وكان قبل وصوله بساعتين
تقريباً قد وصل إلى المركز أحد أصدقائنا من بيروت ويدعى عمر منصور وهو أحد الإخوان
في تنظيم اليوغا مع المعلم، جاء يسأل عن البيك، ولحظة وصول البيك أخبره عمر أن
الحكيم الهندي كريشنا قد وصل إلى بيروت ويريد رؤية البيك، وبالرغم أنه كان متعبا
جداً وينشد بعض الراحة، لكنه وافق أن يسافرَ مع عمر إلى بيروت لمقابلة الحكيم.
وحدّثني بعد يومين صديقنا عمر عندما وصل إلى بيته ومعه المعلم، وكان الحكيم الهندي
بضيافته وبانتظار المعلم، فسلّما سلاماً حاراً واستأذن الحكيم من عمر صاحب البيت في
أن يختلي مع المعلم لبعض الوقت، ولاحظ عمر في هذه اللحظة أنَّ وجه الحكيم كان
مرتاحاً تماماً وفي غاية الإشراق، بينما المعلم كمال جنبلاط كان في غاية التعب
والقلق والانهيار، ودخلا غرفة خاصة لمدة نصف ساعة، وعند خروجهما، تعجَّب عمر مما
رأى، فقد انعكست الأدوار، وبدا البيك في غاية الانشراح والفرحة والراحة، بينما
الحكيم ظهر ملبدَ الوجهِ، وعلامات التعب والقلق بادية عليه، وغادر البيك مع سائقه،
حيث عاد الحكيم ليختلي بنفسه نصف ساعة أخرى، ويخرج بعدها كما كان قبل أن يلتقي
بالمعلم.
ويفسر ذلك صديقنا عمر، لكونه خبيراً بتعاليم اليوغا، وما تفعله تمارينُها بالإنسان
من تأثير، بأن ما حصل هو تفريغ للطاقة السلبية التي كانت على وجه المعلم،
واستيعابها في كيان الحكيم، ثم طردها من جديد بممارسة بعض التمارين الخاصة بذلك.
يوجد في قصر المختارة غرفة خاصة، يصعد إليها المعلم بدرج ضيق، وهي مقفلة لا تطل على
العالم الخارجي، اتخذها المعلم منذ مدة طويبة، مخدعاً وصومعة له يدخل إليها مساء
يوم الخميس من كل أسبوع، ويبقى فيها حتى صباح السبت، لا يخرج أبداً ولا يستقبل أحداً
يوم الجمعة، ويقال أنه كان يمارس اليوغا ويقرأ الكتب الدينية.
قَصدتُهُ مع صديقيَّ في لجنة التوجيه السياسي التي كنا نمثلها، في صبيحة أحد أيام
صيف العام 1976 للتشاور في بعض الأمور، وكان يتناول فطوره الصباحي، تأملته وهو يأكل
بعض قسيمات الخبز البلدي وأمامه صينية صغيرة عليها بعض الصحون وتحتوي الزيت والزعتر،
والعسل، واللبنة، وبعض الخضار. فقد كان نباتياً لا يأكل كل أنواع اللحوم.
هذا هو القائد والمعلم، شهيد العروبة والحق والحقيقة والعدالة والإنسانية، سيرته
ومؤلفاته وفكره منارة وهدى للأجيال، لكل مؤمن ومتعطش للخير والإصلاح والتقدم.
رحل كمال جنبلاط فلم يعد هناك في لبنان رجل يمكنه أن يحاوِر وأن يُحاوَر.
رحل الرجل السابق لعصره بعد أن شهد: ربِّ اشهد أني بلّغت. وقد صدق الشاعر الكبير
شوقي بزيع حين قال:
طال ارتحالك ما عودتنا سفراً، أبا المساكين، فارجع فنحن ننتظر.
أظنُّها طلقات الغدر حين هوت ..... تكادُ لو أبصرتْ عينيك تعتذر .