شهادة من الجولان.. بمناسبة عيد الأم
حامد الحلبي - 27\03\2010
المكان موقع جنوب شرقي قرية مجدل شمس، اسمه »السُّكّرة«، يمر أمامه خط وقف إطلاق
النار بين القسمين المحتل والمحرر من الجولان، على السفح الغربي لواد سيلي هو »وادي
المغيسل« الذي يمر إلى الشرق من القرية.
الزمان شهر تموز من عام ،1974 بعد تنفيذ اتفاقية فك الاشتباك بين سورية وإسرائيل في
الجولان، حيث رسم خط وقف إطلاق النار بموجبها.
في هذا الوضع الجديد، صار ممكناً للأهالي والأسر المشتتة، بسبب الاحتلال، بين
الجولان المحتل والوطن الأم سورية، أن يصلوا إلى هذه المنطقة، وينادي بعضهم بعضاً
بمكبرات الصوت عبر الوادي، بعد انقطاع قسري دام سبع سنوات منذ الاحتلال عام ،1967
وهو طبعاً لقاء قسري أيضاً، ولكنه يبقى أفضل من الانقطاع الدائم.
في ذلك الوقت، ذهبت مع صديق عمري المرحوم سليمان مزيد أبو صالح، وبدأنا النداء على
أهلنا، على البعد، والحديث معهم.. وكان اللقاء حاراً جداً وحميمياً جداً.. والصوت
يركض متدفقاً بيننا مجتازاً الأسلاك الشائكة وحقول الألغام.. وقد اختلط الأسى بفرح
اللقاء- ولو عن بعد- ولم نكن نشعر بدمعنا المنساح بهدوء، إلا عندما كان يبدأ
بالتكاثف في عيوننا، ويشوش الرؤية علينا، فنمسحه بأصابعنا، وكان هذا الوضع واحداً
لدى المنادين على جانبي الوادي.
أذكر أن والدة المرحوم سليمان جاءت وتكلمت مع ابنها، بكل العواطف الحارة التي كان
يمكن لحرارتها أن تُذيب تلك الأسلاك لولا كثافتها الهائلة، وبعد فترة من الحديث لا
أستطيع تقدير مدتها، لأنه من المستحيل على الإنسان أن يستطيع حساب الزمن في هذا
الوضع أو أن يفكر في ذلك أصلاً- رأينا والدة سليمان تشبك أصابعها في شبكة الشريط،
وتهبط بهدوء نحو الأرض وتجلس القرفصاء، وإخوة سليمان حولها يمسكونها.. فسأل سليمان
صارخاً أمي.. أمي.. ماذا جرى؟ فأجابه أحد إخوته قائلاً حالة تأثر وإغماء بسيطة،
وسنأخذها إلى البيت، لا تشغل بالك.. وفعلاً حملوها وأخذوها.
مكثنا فترة بسيطة بعد ذلك، ودّعنا أهلنا، وصعدنا على السفح الشرقي للوادي باتجاه
قرية »حضر«.. عندئذ فقط انتبهنا إلى أن الشمس بدأت بالاقتراب من الغروب.
بقينا مشغولي البال، وفي صباح اليوم التالي عاد سليمان إلى منطقة الشريط ليطمئن على
أمه، وعندئذ أخبروه أنها توفيت في لحظة سقوطها أمامنا، وأنهم أخفوا عنه الخبر كي لا
يتأثر، لأنه كان لديه مرض في القلب.
كانت المسافة بيننا- عند الوفاة- نحو مئة متر أو أكثر بقليل، فقد كان مسموحاً لنا
وقتئذ بالنزول إلى جانب الوادي.. ولم نستطع المشاركة في توديع هذه السيدة »مَنْوة
أبو صالح« التي توفيت إثر انفعالها الشديد لرؤية ابنها، وعدم استطاعتها معانقته.
وإذا كان لابد للمأساة أن تكتمل، فإن الأجل أيضاً وافى ابنها في جرمانا قرب دمشق في
العام 1995
وهو يحلم بالعودة إلى قريته مجدل شمس ولثم تراب قبر والدته.
هنالك حوادث كثيرة مشابهة جرت على جانبي وادي الدموع هذا، منها وفاة السيدة غالية
عماشة، وهي تنادي على ابنها محمد رومية، الذي يسكن في قرية عرنة.. وتوفيت فوراً
بالجلطة، وهي تنادي يا محمد.. يا محمد! وكذلك السيدة أم أنيس رحمة كبول من عرنة في
جبل الشيخ أيضاً، وقد توفيت وهي تنادي على ابنتها المتزوجة في مجدل شمس.. وهذه
الحالات وغيرها هي نتيجة للاحتلال الإسرائيلي الذي يعاني منه مواطنونا في الجولان
المحتل وذووهم، على المستوى الإنساني خصوصاً، بل على كل المستويات.
هذه صور من معاناة الأمهات في الجولان المحتل، وهي نموذج للقهر على الصعيد الإنساني.
ورغم هذا كله فإن روح الحياة تبقى أقوى من القيود، هذه الروح التي تتجلى في الربيع
المتجدد وفي العطاء الخالد للأمهات.. ومن الطبيعي أن يكون عيد الأم هو ذاته بداية
فصل الربيع، لأن الأرض فيه تُطلع النباتات اليانعة، ومياه الينابيع المتدفقة، والأم
تنجب الحياة البشرية اليانعة والمتدفقة أيضاً، وتحافظ عليها.
فتحية إلى أمهاتنا العظيمات في جولاننا الحبيب وفلسطين، وفي كل أرض تعاني من معيقات
الحياة!