يوم الأرض.. دفاع مجيد عن التراب الوطني في فلسطين
والجولان
بقلم: حامد الحلبي - 02\04\2010
في يوم مشهود من ربيع عام 1988 ذهب المئات من المواطنين السوريين من الجولان المحتل
إلى الجليل في شمالي فلسطين، وبالتحديد إلى منطقة جبل الزبود قرب قرية بيت جن بجانب
جبل الجرمق، ووقفوا مع أهالي القرية دفاعاً عن أرض واسعة أرادت سلطات الاحتلال
الإسرائيلي مصادرتها في جبل الزبود.
وتصدى الجميع للجرافات والآليات الإسرائيلية، واستطاعوا إيقافها عن العمل، ثم
طردوها بعيداً وأوقفوا عملية المصادرة. وقام شاب من الجولان بالصعود إلى ظهر إحدى
الجرافات الإسرائيلية التي استطاعوا تعطيلها، وأنشد في الجموع مقاطع من قصيدة
الشاعر عمر الفرا “الأرض إلنا.. الأرض إلنا”، وسط جو من التلاحم بين عرب فلسطين
والجولان دفاعاً عن الأرض العربية.
إن هذه المواجهة هي تلخيص للصراع مع الاستعمار الصهيوني الذي يهدف إلى قضم الأرض
العربية وطرد أهلها منها، ومن ضمن هذه المواجهة المريرة والطويلة، جاء “يوم الأرض”
في 30 آذار ،1976 الذي عبّر عن تمسك أبناء شعبنا العربي الفلسطيني بأرضهم ووطنهم
وصمودهم في أرضهم.
وإذا كان يوم الثلاثين من آذار قد فجّر قضية الأرض، فالمسألة الكامنة وراءها أعمّ
وأشمل، إنها قضية الوطن.
مقدمات يوم الأرض
في يوم 29/2/1976 أقرت الحكومة الإسرائيلية خطة لمصادرة الأراضي في الجليل وإعطائها
للمستوطنين الصهاينة، وذلك ضمن مخطط لإكمال تهويد منطقة الجليل، حيث يشكل السكان
العرب نحو نصف سكانها.
وكانت خطة المصادرة قد بدأت منذ إقامة إسرائيل عام 1948 وما قبلها، وما بين عامي
1948 و،1962 جرت مصادرة 65% من مجموع مساحة أراضي القرى العربية، وأزيلت معظم قرى
فلسطين، ويوثق هذه القرى المدمرة السّفر العظيم “كي لا ننسى”، تأليف الدكتور وليد
الخالدي، الصادر عن “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”، فهو يوثق لأكثر من أربعمئة قرية
فلسطينية مدمرة.
وذكر المحامي حنا نقارة أمام مؤتمر الدفاع عن الأراضي العربية الذي عقده عرب فلسطين
الـ1948 يوم 18101975 قائلاً “إن السلطات الصهيونية جرّدت الفلاحين العرب منذ عام
1948 حتى عام 1960 من مســــاحة 1.250.000 دونــــم مـــــــــن أخصــــــب الأراضي،
وتخطط لمصادرة 1.900.000 دونم من أراضي النقب في جنوبي فلسطين، إضافة إلى المليون
ونصف المليون دونم التي استولت عليها هناك”.
وفي عام 1976 قررت السلطات الإسرائيلية إغلاق المنطقة الواقعة في الجليل الغربي
ومساحتها 23 ألف دونم، حتى تتمكن من تهويدها، وأعلنتها منطقة مناورات عسكرية مغلقة
بوجه أصحابها العرب، وأطلقت عليها المنطقة رقم 9. ومعظم الأراضي المنوي مصادرتها
والبالغة مساحتها 20 ألف دونم تابعة لقرى “سخنين، عرابة، دير حنا”.
رد عرب فلسطين
بادرت “لجنة الدفاع عن الأراضي” إلى عقد اجتماع في مدينة الناصرة يوم 6/3/1976 حضره
70 مندوباً عن مختلف مناطق فلسطين، وقرروا مقاومة المصادرة وطلب إعادة الأراضي
المصادرة سابقاً إلى أصحابها، وتنفيذ احتجاجات عامة وإضراب شامل يوم الثلاثين من
آذار الذي سمّوه “يوم الأرض”.
وفي يوم 19/3/1976 أصدر وزير المالية الإسرائيلي قرار المصادرة، وأبلغ رؤساء
المجالس المحلية لـ12 قرية عربية، قرار مصادرة أراضيهم، وأن ذلك سيدخل حيز التنفيذ
ابتداء من 22/3/1976.
عملت السلطات الإسرائيلية كل ما في وسعها لشق إجماع العرب وكسر الإضراب، مستخدمة
جميع وسائل الترهيب والترغيب والإشاعات. ولم يبق جهاز من أجهزة السلطة إلا وشارك في
محاولة كسر الإضراب. وفي ليلة 29-30 آذار، صدرت تعليمات من رئيس الوزراء الإسرائيلي
آنذاك إسحاق رابين، بفرض حظر التجول على قرى “عرابة، سخنين، دير حنا”.
في صباح يوم الأرض، خرج أهالي القرى والمدن العربية في فلسطين الـ1948 كلها، وطافوا
في الشوارع، معبرين عن موقفهم الرافض لمصادرة الأراضي، واشتبكوا مع الجنود ورشقوهم
بالحجارة، وفتح الجنود النيران على المتظاهرين.
وانقضّت طالبات قرية “كفركنّا” على الجنود، الذين واجهوهن بقنابل الغاز.. وشمل
الإضراب أيضاً الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة والقطاع، وكان تعبيراً عن وحدة
الشعب الفلسطيني ووحدة قضيته.
وبلغت حصيلة المواجهات في يوم الأرض 1976 ستة شهداء و69 جريحاً ونحو ألف معتقل.
ورغم سياسة القمع، فقد نجح الإضراب، وكان هزيمة ساخنة مُنيت بها السلطات
الإسرائيلية، وزاد ترسخ وحدة أبناء شعبنا العربي الفلسطيني وتلاحمهم، وعمّق
انتماءهم لوطنهم وعروبتهم. وتصف صحيفة “معاريف” الإسرائيلية في اليوم التالي
للإضراب ما جرى في يوم الأرض قائلة “لقد كان ما كان حدث ثورة بكل معنى الكلمة،
الثورة العربية لعام 1976”.
وفي الناصرة اقتحم رجال الشرطة منزل المناضل الشاعر المرحوم توفيق زياد، رئيس
البلدية، واعتدوا على المنزل وضربوا زوجته، وهو لم يكن في البيت ساعتئذ.
وإجلالاً للتضحيات التي قدمها عرب فلسطين في يوم الأرض، وإذكاء لشعلة النضال عبر
الأجيال، فقد أقيم في سخنين نصب تذكاري تخليداً لشهداء يوم الأرض، ودُشن باحتفال
جماهيري كبير تكلم فيه المناضل توفيق زياد قائلاً “إن هذا النصب هو رمز لامتزاج
الدم بالأرض دفاعاً عنها، وإحياء لها، وسيكون لهذا الدم الطاهر أكثر من دلالة في
الأيام المقبلة”.
ويتلاقى النضال من أجل الأرض وضد الاحتلال، في فلسطين والجولان العربي السوري،
ويمتزج أحرار الجولان مع إخوانهم عرب فلسطين في لحمة نضالية مشتركة ضد العدو الواحد،
دفاعاً عن الأرض العربية والانتماء العربي. وتشارك وفود من الجولان المحتل في يوم
الأرض كل عام في الاحتفال الذي يقام في فلسطين ،1948 ويساهم بعضهم مع بعض في الدفاع
عن الأرض.
إن كل يوم يمضي تحت الاحتلال هو “يوم للأرض”، لأن التوسع الإسرائيلي لا يتوقف.. ففي
الجولان استولت سلطات الاحتلال على نحو 96% من أراضيه، ولم يبق لأهلنا الصامدين في
بضعة قرى في شمالي الجولان سوى 4%. وكانت ذروة المواجهة مع الاحتلال في الجولان حول
الأرض في يوم الأرض الجولاني في آذار ،2004 إذ استطاعوا إيقاف السيطرة على مساحة
355 دونماً من أراضي قرية مسعدة في هبّة جماهيرية حاشدة من أهالينا في الجولان.
وتستمر الاعتداءات الإسرائيلية على الأرض، إذ نسمع باستمرار أنباء قيام سلطات
الاحتلال بمصادرة الأرض أو اقتلاع الغراس من الأراضي التي يملكها مواطنونا في
الجولان إرثاً عن آبائهم وأجدادهم، إضافة إلى السيطرة على المياه السطحية والجوفية،
والتضييق على المراعي وأراضي القرى، وعرقلة التوسع العمراني وغير ذلك من الممارسات
التي تهدف إلى السيطرة على الأرض والتوسع فيها.
وفي فلسطين كذلك تستمر سياسة التوسع ومصادرة الأراضي مع استمرار مقاومة أهلنا هناك
لهذه السياسة وللاحتلال بحد ذاته.. ومن ذلك زيادة مساحة المستوطنات في الضفة
الغربية والجولان، واستمرار سياسة ابتلاع القدس وتهويدها.. وكذلك الأمر باستمرار
التضييق على أراضي عرب فلسطين ،1948 وتوالي المواجهات مع السلطة الإسرائيلية وسقوط
عشرات الشهداء برصاص جنود تلك السلطة.
إذا كان قد مضى على يوم الأرض الآن 34 عاماً، فإن الأطماع الصهيونية في الأرض
العربية انطلاقاً من فلسطين، بدأت منذ أكثر من مئة عام، وهي مستمرة، ولكن إرادة
المقاومة مستمرة أيضاً.
وأذكر شخصياً يوم الأرض هذا في عام 1976 في لحظات لا أنساها أبداً، إذ كنت مدرّساً
في بلدة “الأتارب” غربي مدينة حلب، وطلب مدير الثانوية منّى أن ألقي كلمة بالمناسبة
أمام التلاميذ الذين كان عددهم يقارب الألف، وبحضور المدرّسين، وذلك على اعتباري
أحد أبناء الأرض المحتلة. وقد فاجأني المدير بهذا الطلب الذي حصل خلال الاحتفال.
فارتجلت كلمة اختلط فيها الكلام بدموع التأثر، أكدت فيها قيم الارتباط بالأرض
والدفاع عنها مهما كان الثمن.. وأنه من هنا جاء ارتباط الأرض بالعِرض في الثقافة
العربية، وأكدت أيضاً أن فلسطين بالأساس هي قضية عربية، والدفاع عنها مسؤولية عربية،
ولا يعفي أي عربي “مواطناً أو حاكماً” من هذه المسؤولية.
وكم كان اعتزازي وسروري عظيماً بردة فعل التلاميذ الرائعة والعميقة على ما قلته عن
يوم الأرض ومعانيه الكبيرة، واستمروا في الإلحاح على مناقشة هذه المعاني معي أياماً
عديدة بعد ذلك، مقتطعين جزءاً من الحصة الدرسية لهذا الموضوع.
إن موقف التلاميذ هذا، على سبيل المثال، هو خميرة عظيمة، وأرضية صلبة للموقف العربي
الشامل تجاه الأرض العربية المحتلة وأهلها الأبطال الصامدين فيها، وعدم تركهم
وحيدين في المواجهة مع عدو متغطرس مستمر في قضم الأرض والإنسان.. ولنأخذ من معاني
يوم الأرض نوراً يضيء الطريق إلى العزة والكرامة الوطنية والقومية.