على رصيف الحياة
يارا – 20\04\2010
عند رؤيتها إعلان بشأن إقامة حفلة تخرج للفوج أتت لزيارة القرية ولحضور الحفل بعد
قطيعة دامت شهوراً كما ذكرت، فقد مر على زواجها إلى إحدى القرى الدرزية الفلسطنية
أكثر من عشر سنوات. لأول مرة التقي بها منذ زواجها، حدقت طويلا في ملامحها التي بدا
عليها الحزن والتعب، دعوتها لقضاء بعض الوقت سويا.. فما كان منها إلا لبت الدعوة
سريعا... فبدأت بسؤالها عن أحوالها فأجابت أحوالي اسمعيني، ولا تقاطعيني:
مر قطار العمر في درب حياتي دون أن أرى زهرة الربيع ولا شمس الصيف، حتى أني لم أحس
برعشات الخريف.. وإنما غرقت في الوحل والطين.
فكانت أمي دائمة الدعاء لله عز وجل أن يبعث لي شابا يريحني بما أنا فيه ويكون لي
بيت دافئ وأطفال، فأنا البكر بين إخوتي، أنهيت دراستي الثانوية وبدأت أعمل لتحسين
أوضاعنا والمشاركة في تعليم أخوتي الصبية في الجامعة، وبعدها مساعدتهم في حمل أعباء
ومصاريف الزواج، ونسيت نفسي ومستقبلي...
حتى أصبح لكل منهم حياته الخاصة، وبقي لي عملي ومساعدة وإعالة أهلي... حتى جاء يوم
قرر أحد أخوتي الانتقال للعيش معنا، فلم يستطع تحمل مصاريف العائلة والأولاد،
بالإضافة إلى بيت بالإيجار. كانت زوجته قمة في الذكاء فعملت على التخلص مني بدهاء.
قائلة أن حياة الفتاة كلائحة كتب عليها (ممنوع قطف الزهور) يشمها كل من هب ودب
ويمتصون رحيقها حتى يجف عطرها وتغدو لا فتاة ولا مرآه ، وتعد من نفايات المجتمع
واصدقائها الحثالة منهم... وأقنعتني بفكرة الزواج وتكوين عائله تعيش باستقرار.
وتقدم لي كهل عاجز مريض يبحث عن زوجة وممرضة ومربيه لأطفاله.
تزوجيه قبل أن يفوتك القطار - هذا ما قالته لي - وليت هذا القطار فأتني وتركني على
رصيف الحياة.
بعد صراع قاس وإحجام وإقدام وتردد وخوف.. وافقت على الزواج.. فتلك الليلة لم ولن
تغيب عن مخيلتي. كنت أتأمل أقاربي تارة وبيتنا تارة أخرى. مضت أكثر من ساعة وخيالي
يعانق كل زاوية من زوايا البيت دون أن أجرؤ على الاقتراب من أي مكان. هي سنة الحياة
اقتلعتني من دار الى دار... حيث امتزج السكوت بالندم.
فكان زوجي صامتا كالحجر،عابساً كيوم مظلم، كل لحظة معه احسستها دهراً كاملاً...
كلامه بمثابة سكاكين تغرس بين أحشائي وتصيب قلبي ومشاعري، فهو غريب الأطوار، مهووس،
يقوم بتصرفات غريبة يفقد خلالها عقله وتفكيره، وأنا مشلولة الإرادة أمامه. وكلما
شعرت بالضيق كنت أهرب غير مكترثة بصراخه إلى الجلوس تحت شجرة التفاح التي غرستها
بعد زواجي بأيام. كنت أشم رائحة بلدي من خلال أوراقها.. أغمض عيني تحت أغصانها..
أسافر إلى قريتي.. أمشي في شوارعها.. أركض في بساتينها .. أحن إلى بيتنا.. إلى
إخوتي.. إلى بلدي..
... كنت افتخر كل الفخر وأزهو بنفسي حين أعبّر وأتحدث عن بلدي ووطني.. لم أعشق بلداً
كبلدي... ولن أقبل أن أموت إلا في بلدي.. انه عشق سرمدي صامد...
هذا حالي. لم أعرف من المشاعر سوى الخوف والريبة والجزع والشك والحنين والشوق
والندم على ما أقدمت عليه...
بادرتها صارخة متأثرة لحالها: عودي إلى أهلك. اتركيه.. أرحم من غربة وزوج كهذا.
قالت: الأم من تلد وتربي، فقد رزقني الله بطفلة بالإضافة إلى أطفاله اللذين أحببتهم
وأحبوني وأعدهم أولادي.. وأن فرطت ألام بفلذات أكبادها لم تعد ممن الجنة تحت
أقدامهن.