إرضاع الكبير وصحن الحمّص والجلباب...فماذا بعد؟!
وهيب أيوب – 09\05\2010
عندما تعيش أُمّة عصر انحطاط، فلن تبقى هناك حدود لانحدار العقل وتسفيهه على نحوٍ
مأساوي، يحتار معه المرء، أيقابل تلك التفاهات بالسخرية أم بالحزن والبكاء، أم بلطم
الخدود ورجم الرأسِ بالقباقيب إن وُجِدت؟
على إحدى الفضائيات العربية يُطالعونك بخبرٍ مُصوّر شبيه بريبورتاج قصير، يتحدّث
فيه عضو البرلمان المصري المُستقّل مصطفى الجندي عن مشروع قرار قدّمه تحت قبّة
البرلمان يقترح فيه أن يكون الجلباب أو الجلاّبية اللباس الرسمي في المناسبات
القومية، لأنها، أي الجلاّبية، تُعبّر عن ثقافة مصرية خالصة.. ونصح رئيسه، مُبارك،
أن يكون أول المصريين في لبس الجلاّبيّة.. قد يكون الرجل مُحقاً، ففي الجلاّبية
الفضفاضة تجري الأفكار دون قيود أو حواجز، وتُحلّ المسائل المُستعصية والعالقة...!
ولكني اسأل سيادة النائب: ألا يُعيق الجلباب التنقّل والقفز بين أكوام الزبالة التي
تملأ العاصمة القاهرة وغيرها، والتي باتت أزمة الزبالة فيها لا تعادلها إلا كارثة
تسرّب الزيت في خليج مكسيكو وعلى الشواطئ الأمريكية؟!
هل يكون نجاح مشروع القرار هذا فاتحة لمشاريع مشابهة على غرار الفتاوى التي شغلت
المصريين والمسلمين ردحاً من الزمن؟ فقد يخطر ببال أحد النوّاب توحيد اللباس
الداخلي ليكون تراثياً وشرعياً على النحو الذي كان سائداً زمن الصحابة مثلاً!..
لا شيء مُستَبعدٌ إذا كان هذا هو مستوى إبداع النوّاب الأغرار..!
إلى هذا الحد وصل الانحطاط والتفاهة في التفكير. ولا أدري كم بذل هذا النائب
الصنديد الألمعي من التفكير والتمحيص والدراسات حتى وصل إلى هذا المشروع الفذ الذي
سينقل مصر من عصرٍ إلى عصر ومن دورٍ إلى دَور...!
طبعاً هذا إبداع عقلي وفكري مُبرّر في بلدٍ مثل مصر، تتوفّر لأبنائه كل أسباب
التقدّم والرفاهية والحريّة والراحة والاكتفاء الذاتي من مجاميعه؛ لا بطالة، لا
أُميّة، لا تخلّف وجهل، لا فساد، لا محسوبيّة، والحكومة والحكم كلّه تمام التمام!
ولم يبقَ لدى المصريين إلا استعادة بعض التراث الضائع للتسلية والتندّر، بعد أن
أُصيبوا بالتُخمةِ جراء رغد العيش المُمل...!
يلوم بعض المثقفين العرب الشاعر أدونيس على تصريحاته بأن الحضارة العربية باتت
مُنقَرِضة. ربما أخطأ شاعرنا وتسرّع قليلاً فيما قال، أو أنّه لم يطّلع على إبداعات
العالم العربي في السنوات الأخيرة، وربما نسيَ السيّد أدونيس أو تناسى بأننا منَ
يُبدع الفتاوى لخلق التغيير في هذا المجتمع للسير به قدماً بعيداً عن حضارة الغرب
الكافر. إرضاع الكبير والتبرك بالبول وحديث الذبابة وعدم جواز دخول المرأة الحمّام
إلا مع محرمها فقد يسكنه الجن ولا يجوز أن تُكشَف عليه! أو قيادتها السيّارة، أو أن
تدخل الحاسوب "التشات" دون محرمِها... وهكذا.
أو لعل أدونيس تجاهل عن قَصدْ أو دون قصد، لا يهم، أن العرب أصحاب أكبر صحن حمّص في
العالم - قبل أن تحطّم الرقم إسرائيل، في منازلة تكنولوجية رهيبة -، وأنّهم أبطال
أطول "سيخ شاورما" في الكرة الأرضيّة، ولا ننسى طبعاً صحن التبّولة والفتّة بكوارع
والبابا غنّوج.. يا بابا...!
من مصر بدأَ "عصر النهضة" في نهايات القرن التاسع عشر، مع الطهطاوي ومحمد عبدو
والكواكبي والأفغاني وفرح أنطون وشبلي شميّل والشدياق وغيرهم، واليوم مع العقد
الأول من القرن الحادي والعشرين، يفتتح الإسلاميون وأمثال أبي الجلاّبية عصر
الانحطاط، بحيث يُلاحق هذه الأيام في مصر أي مُبدع ومفكّر حقيقي من خلال محاكمة
بعضهم وتكفيرهم وتهديدهم بالقتل كما جرى للمفكر فرج فوده ومحاولة قتل نجيب محفوظ
وتطليق نصر حامد أبو زيد من زوجته عنوة، وملاحقة سيّد القمني وعبد المعطي حجازي
ونوال السعداوي والقائمة طويلة.....
لقد ذكّرتني تلك الأمور بإحدى النوادر التي جرت مع المفكر الإسلامي الشيخ محمد عبده
في بداية القرن العشرين، وكان عصر اختراع الطائرات. والقصّة كما ترويها الكاتبة
غادة السمّان هي كالآتي:
((وبينما الدنيا تركض في دروب العلم والفضاء، يتابع مثلاًَ تلميذ الشيخ محمد عبده
طرح السؤال نفسه منذ نصف قرن أو ألف ليلة وليلة! إبريق المرحاض أيوضع على يمين
المتوضئ أم إلى يساره؟ ويصرخ به الشيخ محمد عبده: يا ابن (الـ... ) بَقُلّك طاروا...
بَقُلّك طاروا "مُشيراً إلى الطيران الأول في الغرب الذي تصادف يومَ طرحَ عليه
تلميذه هذا السؤال")).