الإعتراف؟
داوود الجولاني - 17\05\2010
"تحت وطأة الحياة تشكلت رغبتي بالموت، فأحببته، فصار هاجسي الوحيد. أحسست أنه منقذي،
فسلكت طريق الجبل الذي تمتد تحت أقدامه أمواج رقراقة وصخور حادة لنهرٍ ماؤه عذب
المذاق".
هكذا تكلم وهو يصعد الجبل نحو أعلى صخرة تطل على النهر، وهكذا تكلمت المرأة التي
تلحق بخطواته : "سأكون حجرا في طريقه يدمي قدميه ليبطئ السير، وسأكون طيراً يدله
على طريق العودة إلى منزلي، وسأكون نبت الأرض يلجم جوعه، فيا ليته يقدم اعترافه،
لأني سأشنق خطاياه بضفائر شعري المجدول، ثم أعطيه مشطاً ليجدل جدائلي، فلا تعود
الخطايا خطايا، وأحرر روحه من دنيء ما اقترفت دنياه، وأطهرها بالحياة لا بالموت".
مشى صاعداً لا يشعر بوخز الشوك ولا برائحة الورود التي تنبت في الجبل. مشى وهو يقول:
"لا أخشى من عاصفة رمل في صحراء تغطي جسدي حتى ما فوق العنق، ولا أخشى المرور فوق
جدول من جمر يكوي قدمي، ولكني أهاب الجلوس في صومعة من أحب حتى أقدّم اعترافي الصعب،
هذا الاعتراف الذي زيّن لي الموت، فصار مطلبي، وصرت أجفل كلما اقترب صوتها مني
ليوقظني من التيه في الحلم".
مشى مترددا مثل مشية طفل حتى صعد الصخرة العليا المطلة على النهر. فشاهد لوناً أصفر،
يودع الشمس ويجلس بسكينة في حضن الأفق.
نظر إلى أسفل فشعر بدوخة وبلسعة هواء بارد، فتراجع إلى الوراء قليلا وعقد يديه وراء
ظهره وهم بالركض.
قال: "سأدفع بجسدي بقوة باتجاه الماء حتى أغرق في المياه العذبة، وحتى أتلافى أن
يتهشم جسدي فتخترقه نتوءات الصخور".
كاد أن يفعل، ولكنها انكشفت له، فرآها وقد صارت طيرا يحوم وحسبها تغريه وتدعوه: "جرِّب
التحليق قليلا ما بين السماء والنهر، فالموت لن يهرب منك، فربما الطيران مثلي قد
يعيدك للمكوث، ولو لوقت قصير، هنا بين جناحي... فعاهدني أن تأخذ استراحة قليلة،
وتذكرني"..
قال : ربما يا طير تغرّد بالهداية، فموتي لا محالة قادم.. وهو قدري قادم، بهروبي عن
مواجهة حبيبتي قادم، فلماذا لا أتريث قليلا وأتناول وجبة من النسيم والذكريات."؟
تذكر :
"أذكر وجهك المدور مثل رغيف طازج نزل لتوه من فوق الصاج، فلثمته شفتاي برغبة الجوع،
فضحكت غمازة فوق الخدّ، وحين قلت لك ذات صباح شفتّك العليا أكثر عطرا من السفلى،
غضبت.. فاستدركت هفوتي واعتذرت مازحاً".. وتابعت قائلا: "جسدك خابة عطر لا تتجزأ،
فضحكت وتناولت فنجان القهوة الذي طبخته لك، وشربته شفتاك، فغرتُ من البنّ مثل طفل
فُطم للتوّ عن صدر أمه".
ثم أكمل موجها كلامه للطير:
"أنا الآن هنا لأقر أمرا أزمعته. فيا طير المساء حلق بعيدا عني، فموتي الذي أبغيه
مجرد وهم، فلا غياب إلا لجسدي، وسقوطي في الماء العذب شرابا طيبا سيبعث روحي في جسد
جديد، لا ذنوب فيه ولا خطايا ".
ردّ الطير وهو يرفرف كأن سهم أصابه... والاعتراف ألا تقوله؟
"موتي.. كلامي الأخير، وأما اعترافي فلن تمرّ إلا سنوات قليلة وأقوله، حينها لن
يغطي وجه حبيبتي الحزن وإنما الضحك والاندهاش."
عند هذه اللحظة من التفكير استجمع قوته واقترب حتى حافة الصخرة، استنشق الهواء حتى
ملأ رئتيه، ونظر نحو الليل المنسدل بالسواد.