المرحاض
داوود الجولاني - 01\06\2010
ارتدى ثيابا أنيقة، لونها يطغي عليه الوقار والحزن.. ولا عجب.. فالمناسبة التي
يستعجل الركوض إليها جليلة ومهمة، وذات شجون وكرب. لكنه أحس أن أمعاءه تخشخش، وبدلا
من الخروج من باب منزله دخل مهرولا المرحاض. فك حزامه، أسقط بنطاله بين قدميه، رفع
قميصه فوق بطنه وجلس، فاستراحت مثانته وأمعاؤه الغليظة، حتى أن الرائحة التي انبعثت
من مكان في جسده استساغ استنشاقها. تأمل بإعجاب قيافته في المرآة المعلقة أمامه على
الباب الخشبي، والمطرزة حواشيها بلون الذهب، وقال بصوت مسموع وكأنه يغني وهو يستحم:
"اللعنة لقد أفرطت في الأكل كعادتي، وها هي معدتي تعاقبني.. وتؤخرني عن الحضور
مبكرا.. فأنا أعرفهم سيسبقونني لملاقاة الضيف وسيلتقطون الصور قبلي..".
أتم فعلته وانطلق بسيارته مسرعا، رغم أن المسافة من بيته حتى قاعة "اللقاءات
السريعة" لا تبعد أكثر من عشر دقائق مشيا... أضاع دقائق عديدة حتى وجد مكانا يركن
فيه سيارته.
صعد الدرج واللهاث والزفير يلحق قفاه حتى وصل باب القاعة.. استوقفته يافطة بيضاء
خُط عليها بالسواد "لن ننسى... على الدرب سائرون... بمناسبة نكسة السادس من
حزيران... يسرنا استضافة الشاعر المناضل والسياسي اللامع فلان ابن فلانة وفلان".
نظر حوله فوجد القاعة تغص بحضور كبير، فتلصص و"تنوقسَ" حتى وجد كرسيا فارغة في أول
صف من الكراسي فجلس فيها واستراح.
"إذن لم أتأخر فالمنصة فارغة ..". قال ثم جال ببصره فرأى رجال الصحافة وقد أخذوا
مواقعهم في زوايا القاعة، وبعض الحضور يبشُ لهم ويبتسم.. فابتسمَ وبشَ وتعمد أن
يرفع بيده ملوحا لمصور في الركن الشمالي للقاعة، فشاهد علما وقد شغل المعدون
للأمسية مروحية هوائية من تحته حتى يرفرف، فرفرف.. تأمل العلم وحدث نفسه: "لونه
الأحمر يشبه ستائر منزلي، ولونه الأبيض يشبه لون سيارتي، ولونه الأسود يشبه لون
بذلتي، واللون الأخضر يشبه لون العشب في حديقة منزلي".
قطع أفكاره صوت دوي التصفيق، فأدرك أن الشاعر وصل ففز عن كرسيه... عانقهُ وقبلهُ في
الوجنتين، وأخذ صورة تذكارية التقطتها كل الصحافة المنتشرة في زوايا القاعة.. ثم
عاود الجلوس واستراح.
قال الشاعر: "أحمره هو لون طلة الفجر فوق حقول المزارعين، وأبيضهُ هو لون كأس من
عرق مُزج بماء سلسبيل، وأسوده ليلٌ يتيحُ الكلامِ لعاشقين فرا خلسةً من ناطورٍ
يراقبُ لون ورقتي كرز وتفاح، فهرب الأخضر مثل دمعتين من مقلتيه، واستحال نجمتين وسط
علم ما أحلاه.".
فصفق الحضور... وهو هتف :
"رائعٌ رائع، صحيحٌ، صحيح ما تقوله أيها الشاعر الكريم ."
و أكمل الشاعر :"أيتها السيدات، أيها السادة، حزيران ابتدأ قبل وقوعه... ابتدأ حين
يم الظلام غمر بحر الكلام.."
في هذه اللحظة، والشاعر يسترسل في الحديث، أحس بأن روائح تخرج من جسده فتحرك
متململا في كرسيه، وتخيل نفسه جالسا فوق كرسي المرحاض، فشاهد الحمام كم هو واسع،
وكم لون وشكل البلاط جميل، وأعجبته الـ "جاكوزي" التي تقبع بجانب كرسي المرحاض...
فشهق واستراح. ولم يفق من شروده إلا على صوت عريف الحفل وهو يشكر الشاعر وينهي
اللقاء.
فقام مسرعا، مودعا الضيف، دون أن يفوته التلويح بيده للمصور، وانطلق نحو منزله
عدواً..