«بعدك على بالي»
مسعود الجولاني - 16\08\2010
تتّكئ على جبال عالية شاهقة، وتتشبّث بخاصرتيها مروج وسهول تموج كثنايا جسدها
المغري، وقد وضعت تلك الأنثى الساحرة رجليها في ماء البحر، ذلك البحر الذي تخلّى
حينها عن نعاسه وعشق فجأة المدّ بكلّ جوارحه، ربّما ليتحرّش بها ويجبرها على كشف
المستور من خفايا جسدها أكثر فأكثر، كل هذا والقمر المتآمر يطيب له التلصّص بعيون
ناعسة ليوهم الجميع أنّه غاف على كتف الجبل.
أمّا هي فقد كانت متعبة من ظلمة السنين الغابرة، ومثقلة بطموحات تفوق إمكانياتها،
وقد أنهكتها هواجسها ومطامع قطّاع الطرق، وحاصرتها برودة الليل الطويل. ولكنّ
جمالها وصباها لم يعترفا يوما بتجاعيد الزمن، ومن يخطر بباله ذلك في حضرة أناقتها
الطاغية؟ وكانت قد عوّدتنا أن تزيّن شعرها الأسود الطويل بزهرتين متشابهتين... كل
في طرف.
كانت تحتاج إلى شاطئ من الراحة وتتوق إلى نسيم عليل، فيه ما فيه من عبق البحر، حتّى
أنّها استلقت وطوت جسدها كوريقات تلك الشجرة الناعسة مساء، وكأنّها تريد معا أن
تنام وأن تحمي مفاتن الجسد.
ومضت موجات البحر تكرّر نفسها، واستبيح همس رمال الشاطئ... وطالت غفوة تلك الفاتنة،
ولكنّ الزمن لا يكتفي بحسن النوايا وقد تعاطف معها وحن عليها، إذ وبعكس إرادته
وإرادتها، تلبّدت غيوم سوداء، وهبّت رياح شماليّة عاتية، لتخطف منها إحدى زهرات
زينتها. وأمّا هي فقد آثرت طيب النوم على زهرة مسلوبة، ثمّ عاد التاريخ ليكرّر
نفسه، إذ بعد حفنة سنين، هبّت رياح جنوبيّة لتصادر آخر زهراتها، ولكنّها هذه المرة
هاجت وماجت وثارت على البحر وعلى القابعين وراءه، وصاحت بأعلى الصوت: -إنها زهرتي
ولن أتنازل عنها.
فانتعشت تلك الزهرة وكأنّ الربيع يعود ليحضنها، ولكنّها لم تبتسم كعادتها، فهي تأبى
النسيان وما زالت تحنّ إلى أختها المسلوبة قبل حين.