الشيخ والشجرة داوود الجولاني - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني

الشيخ والشجرة
داوود الجولاني - 19\08\2010
هذا السرد المقدم إليكم، شخصه أو إنسانه، ولن أقول بطله، مسن ٌ، تجاوز الثمانين، أعرجٌ، لعلةِ في ساقه اليمنى، اختفى وانقطعت أخباره قبل سنين. وكما وردني في المخطوطة التي نامت في ثنايا صدر زوجته أنه ُكتبَ:
"هو كان لا يعترف بوجود الأبطال أو الأشرار، وإنما كان يَدرك ُ أن الإنسان ليس سوى حديقة مشاغبة، لا صانعٌ يُنسقُها، تنبتُ فيها الزهور، كما تنبت الأعشاب الضارة".. ويؤكد كل القوالين أن أحداث هذا السرد قد جرت فعلا قبل سنوات عشر، في شهر أيلول، و في بداية موسم قطاف التفاح في مرج اليعفوري في الجولان، ولكن الكُثر ممن سمعتهم يملكون معلومات متضاربة عن ولادته، وتاريخ حياته، فزعم البعضُ أنهم سمعوا المسنَ يقصُ حكايته.
والشيء الوحيد المؤكد لدي، أنني كنت أشتم رائحة الشبق واللذة تنبعثُ من الرسومات التي تنخرط فوق أجساد محدثيني، وكأنها وشمٌ، لا ينمحي، كلما تكلموا عن زوجته.

قال أحدهم لقد سمعته ذات مرة يقول: "أني ولدتُ في المرعى في سفح جبل الشيخ، وأن أمي أرضعتني من ثدي عنزة، لأنها كانت تخاف على انضمامة نهديها وهي تُجلسني في حضنها، من شفاهي الغليظة. وهكذا ترعرعتُ في الجبال، سريعاً في ركضي فوق الصخور.
كنت يافعا شاركت الثوار في حربهم، وأُصبت في ساقي اليُمنى وما زالت الرصاصة تكمنُ لي في العظام وتوجعني، كلما تذكرت ملامح الشاب الفرنسي الذي أطلق النار علي وهو يختبئ خلف صخرة خوفاً مني. فلم يُردِني قتيلاً".

وقال أخر: "أنه أعرج فعلا، ولكن ليس لأنه حارب مع الثوار، وإنما لأنه سقط من فوق صخرة أثناء عمله كمهرب للبضائع بين لبنان والجولان وفلسطين".

وقال ثالث: بعد نكبة فلسطين تطوع في جيش الإنقاذ، فلم ينقذ سوى نفسه، وعاد سارقاً بندقية، بدلها بكيس طحين، وقليل من العدس. ليستقر في بلدته، تائباً من الترحال والمغامرة، ولما مُنع من قراءة النصوص الأصلية للكتب المقدسة، وُسمح له بالتفسير، ُسمي شيخاً تحت المراقبة فاكتفى بما علمته الحياة من تجربة وصار مجلس توبته ضريح مقام اليعفوري يزوره كلما طاب له".

حقيقة هذا الشيخ بقيت غامضة وسر اختفائه شغل الجميع، حتى عُثرَ بعد موت زوجته على مخطوطة صغيرة كُتبتْ بخط يدها وكانت مخبأة في صدرها.
من قرأ المخطوطة تذكر أنه قبل سنوات عشر شُوهد الشيخِ يدخلُ إلى مقام اليعفوري متأبطا حبلا، يغيبُ داخل الحجرة المباركة لوقت وجيز، ثم ينطلق نحو أرضه في المرج، من وقتها انقطعت أخباره وعُدَ في عداد المفقودين.

في المخطوطة ورد الكلام التالي:
"كنتُ صبية، أسكنت ُ الجمال في عيني، ونثرته عطراً فوق عنقي وشفتي، وسمحت له بالنزول إلى صدري، فتدحرج حول بطني، ثم قبل فخذي، ولثم ساقي لينام، مرتاحاً تحت قدمي، فأشفقت عليه من برد الليل، وأعدته صاغراً إلى عيني... أقطن في منزل خشبي يقعُ على ساحل البحر في بيروت، وأُمارسُ الرقصَ صباحاً فوق الكثبان الرملية، على أنغام تحرك الموجات ورذاذ الماء المتطاير، كُلما هَبتْ رياحٌ بحرية.. أدخلته منزلي من أول مرة شاهدته يعرجُ فوق الرمال وَفسحتهُ في الجبال، وأذقْته طعم الفاكهة، فأحب التفاح، فتعلم مني الكتابة والقراءة
فوفى لي بوعده، بأن سَفَْرَني في ترحاله الليلي عبر جبل الشيخ إلى الجولان، ومن ثم إلى شاطئ المتوسط في فلسطين، حيث بقينا يومين، أنا أرقص على الشاطئ وهو يجمعُ البضائع، وهكذا اقترن مصيري بتجواله: هو يُهرب البضائع وأنا أهربُ من مكان إلى مكان. أما ترحالنا الأخير فكان من جبال لبنان إلى الجولان وفي هذه المرة الأخيرة قمنا بتهريب آخر حمولته، ولم تكن بضائع هذه المرة وإنما أنا، وشتلات أشجار التفاح. وقتها قال لي ونحن في قمة جبل الشيخ: هناك في المرج سنستقرُ، ولن يُتاح لك الرقص بعد الآن.. فرقصتُ فوق القمم، بينما جلس فوق صخرة ينظر إلي بشغف، ويقول:
"أنا الآن لا أدركُ، هل ولدت أعرجاً، أم سقطت من فوق صخرة جبلية؟
أنا الآن لا أدركً، هل لي وطنٌ، أم خُلقتُ لأكون رحالا بدوياً؟
أنا الآن لا أدركُ، هل أنا إنسانٌ، أم مجرد وهم، في حكاية شعبية؟"
ثم أعيانا التعب فأكلنا، وفي مغارة نمتُ وهو نام.
في هذه اللحظة توقف قارئ المخطوطة عن القراءة، ويمّمَ مشيته نحو المرج، نازلا عبر الدروب الزراعية الضيقة. في مشيته نحو أرض الشيخ، لحقَ الليلُ به، َفسعفهُ ضوءُ القمرُ الغامر، فشعرَ وهو يحملُ السرَ لوحده، بنشوة طعم ثمار التفاح، فقطف ومضغ في فمه الذكريات: "صحيحٌ ما قيل عنه أنه كان جوالا مغامراً، وأنه نهب وسرق أثاثاً من القرى المجاورة بعد دخول اليهود إلى القنيطرة، ولكن المعروف عنه، أنه بعد أن بصق في وجه الحاكم العسكري أوسعه الجنود ضربا مبرحا، وُزجّ به في السجن لأشهر عديدة."

في المخطوطة تقول زوجته أنه كره الحاكم العسكري لأنه هجّرَ عائلة شركسية كنا نزورها ونحبها، وأنه بصق في وجه الحاكم العسكري، ليس لأنه ظُبط متلبسا في سرقة الأثاث، وإنما لأنه كان يشبه وجه الجندي الفرنسي الذي أصاب ساقه.

وصل القارئ إلى أرض الشيخ وهناك أكمل القراءة في المخطوطة. كتبت زوجته: "بعد خروجه من سجن الحاكم، بقي متوثباً مثل نمر حائر، وفي الإضراب الشهير، رمى جنود الحاكم بالجنسية الإسرائيلية، فلم يُصَب بخدشِ، ولكنه عندما شاهد كيف الربيعُ زَهرَ بالبياض زنود الأشجار، ترك الشوارع وساحات المظاهرات، وسكن في بستان التفاح، يرعاهُ. وقتها قال لي: الإضراب خلق أبطالا، وأشرارا، لا تقوى حديقتي المشاغبة على توفير المقاعد لهم". ثم تفرغ يَُرَمِمُ مسكنه بين شجيرات التفاح، فهدأت روحه، حتى طَعنت به السن، فصار يُرددُ أمامي: حين تكبر السن فيّ سأختار ساعة موتي، ومكان دفني، ولكني قبل ذلك سأنتقم من الرصاصة التي أحالت بيني وبين الرقص مثلك، ثم يضحك وهو يغمز بعينيه، وأضحك أنا بدوري، وأقول له: لستُ عجوزا ويمكنني الرقص كما في السابق.. وحتى دون ساحل بحر..".

تقدم القارئ نحو شجرة مثقلة بالعمر والثمار، جذعها مدورٌ، وقرأ على لسان زوجته:
"بعد أن تأخر في العودة حدَسْتُ أنه يمكث بين أشجار التفاح، فَلحقتُ به وقلق يجتاحني، فعزمتُ إن وجدته بخير أن أرقص أمامه حتى ولو غضب مني... ولكن ماشاهدته جعلني لا استأذنه، فرقصتً مثل ريح صُبَ ملحاً فوق جرحي...
رأيت كيف لف الحبل حول صدره وحول جذع الشجرة، وقد تلون الحبل بالدماء والتراب، حتى صار يشبه حبل السرّة، حتى حسبتهما صارا جسما واحدا. كان يسند ظهره إلى جذع الشجرة، وقد مدد ساقه العرجاء أمامه، وقد نزفت دما، وفي قبضة يده، وجدت رصاصة قديمة يلفُها اللحم... أغمضتُ آخر ابتسامة نامت في وجهه ودفنته تحت الشجرة...