دِينٌ ودُنيا
وهيب أيوب - 23\08\2010
يوم الجمعة الفائت، وأثناء سفري وعائلتي في السيارة إلى بلدة دير الأسد حيث توجد
قاعة "الذبّاح" للأفراح.
طوال الطريق الطويل وأنا أفكّر بمرارة وأسى فيما وصلت إليه مجدل شمس من سوءٍ في
إدارة شؤونها العامة، خاصة ما يتعلّق بالأفراح ومراسم الزواج. وكيف حُرِمَ عمُّ
العريس، في هذا الفرح الذي أنا ذاهِبٌ إليه، من حضور مراسم الزواج "الرَدّة"، في
بيت أخيه، ومن الوقوف إلى جانبه لاستقبال المُهنّئين والضيوف. وإذا لم يكن واجب
حضور الأخ في هكذا مناسبة لجانب أخيه وابنه وعائلته، فمتى إذاً يكون..؟!
وكيف أن أحد أقارب والد العريس وأصدقائه الحميميين قد أتى قبل ليلة الزفاف ليعتذر
لدرجة البكاء، عن عدم استطاعته المشاركة أثناء "الرَدّة" خوفاً من القرار الذي
سُلّط عليه وعلى باقي رجال ونساء الدين من خلوة مجدل شمس، الذي يقضي بإبعاد كل من
يشارك بـ "ردّة" تليها حفل زفاف ومعاقبتهم بإعادة طلب دينهم من جديد.
باتت الأفراح محظورة في مجدل شمس، وباتت القيود عليها تبعث على الاشمئزاز وتُراكِمُ
الأحقاد، وكأنهم يريدون ليلة الزفاف كيوم مأتمٍ يسوده الصمت والخشوع..!
ولا أدري هنا من أين أتى رجال الدين، بتحميل وِزرِ عملٍ ما لآخر لا علاقة مباشرة له
بالموضوع، مِما يُناقض أصلاً جوهر الدين نفسه، الذي يحمّل كل فرد بلغ سن الرشد
مسؤولية أفعاله لا أفعال غيره، على فرض أن ما يقولونه محرّمٌ دينياً.
كنتُ سابقاً قد نشرتُ عدة مقالات بهذا الشأن، بعد أن اطّلعتُ على بعض رسائل
"الحكمة"، لكنني قرّرت لاحقاً قراءة كتب الحكمة الست، علّني أجد المسوغات التي
يستقي منها رجال الدين قراراتهم، فوجدت بعضها يتناقض وجوهر العقيدة، ومنها تخيير
الفرد وحريته في ممارسة دينه بما تيسّر له من فهم ومقدرة، وأنه لا قهر ولا إجبار في
تلك المسائل، وأن أفعال المرء سيّئة كانت أم صالحة، يُحاسَب عليها عند ربّه وليس
عند عبيدهِ. مع العلم أن الذين أنشأوا الدعوة وبثّوها في زمن الدولة الفاطمية،
كانوا ذوي مراتب علمية وفلسفية عالية، لا يتوفر في الجولان من يقدر على بلوغها،
فكيف يستطيعون الافتاء في أمورٍ حياتية تمّ الحديث عنها قبل حوالي الأف عام، في
رسائل كُتِبت بطريقة تعصى على الفهم إذا لم يبلغ صاحبها شأواً عظيماً في اللغة
والفلسفة. وهي ما عادت تستطيع حلّ معضلات العصر الحديث ومحاكاته، من حيث تطور
الحياة والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، واختلاف مفاهيم ذاك العصر، عن هذا، بكل
المقاييس. وبحسب ما جاء في كتب "الحِكمة"، نستطيع أن نقول بوضوح أن رجال الدين
أنفسهم غير قادرين على تطبيق النزر اليسير منه، ولو فعلوا لما استطاعوا الاستمرار
بالحياة على النحو الذي يعيشونه اليوم، ولما استطاعوا السير خطوة واحدة، فكيف
يفرضونه على الآخرين، بمن فيهم غير المتدينين..؟! لا بل لو نقلنا بعض ما كان يقوله
الصحابي أبو ذر الغفاري عن شؤون الدين والدنيا في حينه، لعصي على الالتزام
والتطبيق. لهذا يقول أحد الصحابة: "لا تُلزِموا أولادكم بأخلاقكم، فهم خُلِقوا
لزمانٍ غيرِ زمانِكم".
لنعطي بعض الأمثلة للدلالة على صحّة ما نقول:
قبل خمسين سنة وأكثر، كانت وسيلة النقل الشائعة عندنا هي ركوب الحيوانات، وأكثرها
الحمار، وكنا نرى النسوة تركب ظهر الحمار، حتى بمفردها وتذهب للحقل أو المرج وتعود،
واليوم تغيّرت الوسيلة مع تغييرات عديدة في متطلبات الحياة، فباتت السيارة هي
الوسيلة، فدأب رجال الدين على تحريم سياقة السيارة للنساء، لكننا لو وقفنا إلى جانب
الشارع ونظرنا، لوجدنا اليوم أن عدد السائقات قد يفوق الرجال، فما جدوى القرارات
إذاً، إذا كانت تطال بعض المُستضعفين فقط، خوفاً لا قناعةً، وهم غالباً لا يخفون
غيظهم وحقدهم على من تسبّب بحرمانهم.
المسألة الثانية: يقولون بعدم الاختلاط بين الذكور والإناث، وجميعنا يرى ويعلم أن
هذا الكلام مستحيل التطبيق على ضوء واقعنا الحالي، وما هو سائد مناقض تماماً
لقرارات المنع تلك. فما الجدوى والفائدة من إعادة تكرار هكذا قرارات...؟! إضافة، أن
وسائل العصر الحديث قد أبطلت بشكل غير قابل للرد تلك المسألة، بحيث يستطيع أي إنسان
اليوم، أُنثى أم ذكراً، أن يختلي بمن يشاء عبر الهاتف النقال أو جهاز الكمبيوتر دون
أن ينتقل من مكانه خطوة واحدة. فما تكون الحكمة من هكذا قرار، إلا كلاماً شكلياً
غير قابل للتطبيق ولا يخلق سوى الضغائن ومزيداً من الهوّة التي تفصل رجال الدين عن
المجتمع والواقع. وجميعكم يعلم أن أهل الدين، رجالاً ونساءً يستخدمون الهاتف النقال
والكمبيوتر. والكمبيوتر هذا، لا يستطيع التلفزيون الممنوع لدى رجال الدين، الإتيان
بما يأتي به من شتى أنواع الاختلاط والتواصل عبر آلاف الأميال، فما الهدف من منع
التلفزيون مثلاً..؟! سوى عدم التنازل عن قرارات عمرها عشرات السنوات، لم تعد تصلح
اليوم.
إن إغماض العين عن جوهر الأمور وحقيقة الواقع، ثم إصدار قرارات شكلية للمحافظة على
سلطة، باتت غير مُقنعة لغالبية الناس، يُمثّل كارثة حقيقية لواقع مجدل شمس
والجولان، وكيفية إدارة شؤونه العامة اليوم ومستقبلاً.
ثالثاً: هم يحرّمون الأعراس في القاعات منذ سنوات طويلة، ولكن القرارات لم تُغيّر
من واقع الحال شيئاً، وها هم الناس يسافرون مئات الكيلومترات لإقامة أعراسهم
والهروب من رجال الدين، فما حصاد كل ذلك يا تُرى..؟ وبعملية حسابية بسيطة فإنك
ستكتشف بأن ثمن وقود السيارات فقط المهدور على السفر كل تلك المسافات يبني عدّة
قاعات في مجدل شمس وليس واحدة.
فمسؤولية مَن عدم السماح ببناء قاعة، ومسؤولية مَن بأن تمدّ مجدل شمس موائدها وسط
الطرقات في ظل الرياح والغبار، وإقفال الشوارع وحركة السير. أخشى أن تكون مجدل شمس
هي البلدة الأقل احتراماً بين القرى العربية قاطبة، على سوء تصرفها هذا منذ عشرات
السنين، دون أن تتحرك لجنة الوقف وخلوة مجدل شمس لإيجاد الحل والبديل، لا بل أنهم
باعوا "المغاريق" التي هي من حق كل الناس لإقامة مشروع عام عليها كالقاعة أو غيرها،
وما زالوا يصدرون القرارات..واااعجبي..؟!
أخيراً أقول فيما يخصّ الدين والإيمان، أنّكَ لا تستطيع نزع إيمان مؤمنٍ حقيقي من
صدره وقلبه، حتى لو قتلته، ولن تقوى على فرض إيمانٍ على أحد تحت طائل التحريم
والتخويف، والترهيب بالعقاب والجزاء، فهذا يصبح استعباداً حقيقياً لا إيماناً، وإن
أحد ميزات الدعوة الفاطمية هي إلغاء العبودية والاستعباد بشكلٍ قاطعٍ ونهائي.