بحيرة
رام .. تقدم الخبز أيضا
داوود الجولاني - 10\10\2010
في تلك الأمسية التي انطبعت فوق جلدي مثل وشم، لم أُعر انتباهي لفتاة عادية في
حسنها، ولم تثر بي أي رغبة في اشتهائها والتغزل بها.
حتى جاء وقت كَتبتْ لي فيه : "لِفّ حُبكَ بأكفانِ الصمت وأدفنه بعيداً عني" .
فكاتبتها: " أنا يا سيدتي لا أملكُ إلا كفناً واحداً من القماش الأسود، خيطتهُ لأجل
جسدي... أما الحب فلا أملكُ أكفاناً له..".
كان صديقُ لي قد دعاني قائلاً : هي أمسية لا تعوض .. تعال، ستجدُ أنَ طقوسنا في
الفرح بماء البحيرة أجمل من الشعرِ الذي تنصبُ على قراءته،
فاخرج من أغلفةِ الكتبِ إلى الحياة .... وأضاف ثمة إمرأتان تُمَسْيان علينا بالجمال
...." .
جلستُ معهم في كوخ صغير، يحاذي ماء بحيرة رام، والبحيرة كانت في أوجِ وفرة مائها ،حتى
أن موجها كاد أن يلامس ثرثرتنا. ..
كانوا قد أعدوا سمكاً مشوياً اصطادوه من البحيرة، ووضعوا فوق طاولة الطعام جرةً من
نبيذٍ صنعه صديقي في موسم الكرز. شيئاً واحداً افتقدته، الخبز.. الخبز لم يكن
موجودا ، ربما لم يُطهى بعد..
المساء الربيعي جعلنا نثملُ ببطئ ، حتى قامت فاتنةٌ من مقعدِها، كان إسمها أميرة ،وكانت
تتعمدُ أن تُثيرَ فينا إغواءاً وفتنة، فإذا انحنت قليلاً لتناول قطعة سمك، برزا من
صدرها نسران حلقا عاليا نحو رقبتها ، وإذا ارتشفت النبيذَ غِرنا، وأحسسنا أن النبيذ
يأبى أن يفارق شفتيها ، حتى داعبتنا الرغبة بتقبيل النبيذ الذي ينسال من تحت ذقنها
، وفي السر خلنا أننا نقبل عنقها الملكي، فتوجناها في حضرة المساء قمرا مشاكسا ،
ينعكس فوق وجه البحيرة.
أما الحسناء الراضية بجمالها الهادئ فكانت نظراتها زائغة نحو السماء وكأني بها تبحث
عن نجم لم يَبزُغ ، وحين التقت عيناها بعيني
سألتها ما اسمك؟ ردت على سؤالي بنظرة، فيها إبتهاج ... فبدا الكبرياء وكأنه يفكُ
أزرار قميصه ويستحم تحت قدميها، بأن قالت :" أنا سَمني المجدلية .. ." .فهمت مغزى
كلامها ،وقلت: "وكيف لا تكونين، والبحيرة والسمك والنبيذ ، يجلسون حول مائدة طعامنا..
ولم يبقَ لنا غير الحزين ليُخَدِمَ علينا.."
، ويبدو أن جملتي الاخيرة أثارت فيها الرغبة بالكلام فقالت "أشتهي الحزينَ وبيّ
حنينُ إليه..".
لكن الأميرة التي تَكرهُ أن نُعيرَ انتباهنا لأحدِ غيرها، أمسكت بيدي وقالت: "لنرقص،
فالرقص يلغي المحظور .. " وجرتني بعيدا.... رمقتني المجدلية بحزن طفا في بؤبؤ
عينيها، وكأنها تقول:
" إذهب.. ففرحي الوحيد بلقاء الغائب يكمن بشدة وجعي، وهو ينتظرني هناك على ضفاف
البحيرة.". ثم قامت ومشت.. بقيتُ أُراقبها وهي تخطو على الشاطئ ،وقد لمحتُ نسراً
يحملُ في منقاره رغيفا من الخبز يحط فوق شعرها ثم يطير ، فأمْسَكتْ الرغيفَ وكلْلّتْ
به جبينها ، فاستحالت سنبلة طويلة مثقلة بالقمح، حتى خلتُ أنها غَمرت وجهها بماء
البحيرة فخشيتُ عليها من الإختناق، لكن النسر خفقَ بجناحيه قريبا من وجه الماء،
ورمى بفوطة بيضاء ، فمسحت الماء عن وجهها .. هو لم يكن ماءً ...هو كان بكاء.. ثم
عادت إلى الكوخ محملة بفتات الخبز .... انهمكتُ بمراقبة الأميرة التي أخذت ترقصُ
مثل غجرية سريعة الحركة، كان جسدها يهتز مثل ورود أمالهم النسيم ،فوددتُ لو كنت
النسيم، وأحسستُ برغبةِ جارفة بأني لا بد أن اتملَكُها.
مرت أشهرٌ عديدة منذ تلك الأمسية، وأنا أحاولُ لقاء الأميرة التي أغرتني بجسدها
الثري بالشهوة، ولكنها لم تأبه لي، رغم الرسائلَ الشفوية التي بعثتها مع صديقي. حتى
كان ذات مساء، رأيت إسمها في "الفيس بوك" وقد طلبت صداقتي، فاستجبتُ فوراً، ممنياً
نفسي بالعبث معها، مقتنعاً أنها استجابت لرسائلي..
ولكني فُوجئت بها ترد على كلامي بنصوص قصيرة، لا تكتبها إلا نفس قلقة كئيبة تحب
العالم وتحزن من أجله.
فمرة قالت:" أني ثملة حتى الوجع من سكرات غيابه ".
ومرة قالت: " زارني اليوم في الحلم ، لا أذكر التفاصيل جيدا، أذكر فقط وجهه ، لا
يزال مطبوعا في مخيلتي... تمنيت لو لم أستيقظ على واقع يصلبُ أحلامي فيه .. أشتاقه
.. تبا لحياتي دونه.."
وأجبتها:" أني أحاول أن أحلمُ بك، لكن الحلم لا يسعفني".
فردت :" إذن لا تحلم بي بعد اليوم ، لأن أحلامك تُخذلك أيضا".
ومرة كتبت لها كيف كان يومك اليوم؟..
فاجبت:" يومي كان مملاً ، رغم أن وجهه لم يفارقني أبدا ، بملامحه ، بحزنه..بوقاره،
أفتقده ، وأكرهني حين يغُرقني فراقه بدوامة الحزن ".
ثم كتبت لها" هل انت مشغوله غدا ؟ هل أستطيع أن ألقاك". فأجابت سألقى الغائب عني..
فكل مساء يمضي بدونه ، هو مساء يخنقُني، تباً للحنين إليه، ألا يمل من إستعراض
رغباته أمام ضعفي..". وسألتها..
- ومن هو الغائب عنك؟
_ المُعرَشُ بروحي..
_أهو عنقود عنب أحمر نضج لخمرة شفتيك؟
_هو الدالية بأكملها..
_عرفت من هو.. أنه ثعلب لا يطال الدالية..
_كلا هو أسد لا يهابُ الثعالب، ويطال الدالية وما تدلى منها.
_أسد لا عرش ولا غابة له؟.
_غابته جسدي وعرشه قلبي.. ثم سكتت عن الكلام..
في يوم آخر بعثتُ لها بهذه الرسالة: " أني أعترف لقد زارني الشهي من جديد، دفش باب
غرفتي الموصدة بطرفِ ثوبكِ، ونشرَ في كياني نسيمَ نهر ماؤه عذب المذاق، مزق ستائر
منزلي السوداء، وفرش لي وشاحا أبيضاً لأنام عليه، ولكن النوم جافاني، وصرت أسهرُ
حتى أحظى بفرصة لأكتب إليك... كنت أشتهيك جسداً ... ولكني .. أصبحتُ أبغي الوصال مع
روحك .. .. صرت أحبك.. ".
غابت يومين عن مكاتبتي ثم عادت وقالت : "أتعرف؟ لقد فكرتُ كثيراً بكلامك وسأقدمُ
الآن إعترافي: " أنا لست راقصة غجرية ، وأنا لست الأميرة التي حسبتها.. أنا
المجدلية التي غَطَسْتُ قدمي وأطراف ثوبي بماء البحيرة ، أنا التي شربتُ النبيذ
لأُنعش روحي، لا جسدي ، أنا لستُ سوى أنثى لا أصلح للحب سوى لرجل واحد يَمْلكُني ،
أعيشُ بظلال غيابه، غيابه الذي يشوه أيامي ويغيبُني عن نفسي. أعشقُ تفاصيله المتعبة
، وحزن عينيه الذابلتين بشموخ،
أعشق أحلامي به ، وأنتظر أن أعيشها واقعا بفارغ الشوق، وحده يمتلكُني بكامل حبي ،
وحده يملك مفاتيح قلبي وجسدي، إنني أنثي يا سيدي محجوزة ومرهونة له وحده.. أنني
أنثى حزينة حتى التعب ، بإمكاني فقط أن أمارس البكاء معك كل ليلة دون ملل. فليس لدي
شيئ أطعمُه لأيامك . لفَ حبك بأكفان الصمت وادفنه بعيدا عني.... فما الذي تنتظره
مني؟؟".
راسلتها بعد أن قرأت ما نصت أصابعها المجنونة:"
أخترت أن أكون صديقك، لعلي أنجح في إختبار الروح وأسقط عن كاهلي رغبات الجسد، ولكن
يا سيدة الشال البني / الزيتوني/ العسلي/ هل أنجح .....؟
يا زنبقة الربيع،يا ركضة الحجل على الصخر البري، يا ذئبة الوادي الجريحة، يا ندى
الصبح فوق شفاه النعنع ، يا حفنة ماء نقي، هل لي أن أنسى رشفة قهوة الفجر حينما يمر
مختالا أمام ظلال ثوبك . فيا مجدلية عمديني بماء البحيرة، واسقني ما تبقى من نبيذ
فوق شرفات المساء الأول ، ولا تتركيني ألفُ جسدي بقماش أسود، وصلي على جسدي الممدد
تحت قطرات المطر ، وطرزي نعشي بقول.. عد فقد طال غيابك..
ملاحظة: بعض كلام المجدلية ليس من نصي فقد وجدته في مكان ما..