السر
نضال الشوفي - 31\10\2010
يضيق الشارع النتن على خطاي كلما استكمل ابتلاعي. على حافتيه تحتك ضلوعي فتعرِّيني
شيئا فشيئا من ثوبي النظيف، وجلدي الأبيض الناعم، فتكف العيون عن ملاحقتي، والأطفال
عن إغوائي بأسعار بخسة ثمن علكة، أو سكاكر من نوع رديء.
عند المنعطف الثالث أو الرابع أُحِسُّ بالضياع، فيكون دليلي أول شخص يمر بي. أشكره،
ثم أقرع بابًا يطلُّ منه صديقي الذي أقصده، يستقبلني بذراعين محلقتين تحطَّان على
كتفي وظهري. بعد العناق، أجوب المكان كله بخطى قليلة. ألتفت إلى صديقي قائلا:
_ بيتك أضيق من زنزانة.
فيجيبني بهدوئه المعتاد:
_ بيتي سجن فسيح لجميع الكلمات المحرمة ...
ها قد مضى علينا ساعة أو أكثر وأنا مندهش تماما من جرأتي المفاجئة.. ومن شعور دهمني
بغتة بأن العالم لم يعد متسعًا كما كان.
ألمّ أوراقا حملتها إليه ولم أقرأها، وأنسل من بيته كقصاصة تلاطمتها مياه نبع منفجر،
وآن لها أن تطفو فوق مجراه حتى المصب.
في الخارج تتلقفني العتمة ورذاذ مطر حفيف، وتتبعني فراشات هائمة تبحث عن ضوء تراقصه.
أعبر الأزقة الناحلة مثل خيوط عنكبوت، وأنا مشدوه مسيّر، تقود خطاي ذاكرة حذاء.
أنعطف عند آخر الزقاق، فيشع في وجهي شارع مزدحم عريض، وتزعق في أذنيّ صافرات
المركبات، فيتركني الفَرَاشُ، وتقودني معالم الطريق إلى بيتي.
أغفو تلك الليلة على حلم، وأصحو على كابوس...
كان الرجال يهبطون أرضا واطئة معلقين بالحبال، وكنت أتسلق إلى أعلى حيث ينتصب صديقي
مهتزا كسروة توشك أن تتقصف، تلفني ريح مواتية، وتحاول اقتلاع أصابعي المنغرسة في
البازلت، فيصيح بي من عليائه مؤازرا:
_ تشجع يا صاحبي، تشجع فأنت قريب مني الآن أكثر.
فجأة يستحيل البازلت سخامًا يتشقق تحت أكفي، فتقتلعني الريح وتذروني إلى أعماق لا
قرار لها.
أصحو من النوم معرورقا مذعورا، ويتبدى لي المجرى الذي كنت محمولا بالأمس فوق
منعرجاته قصيرا، والمصب في نهايته موحل آسن. وأحار في أمري. أألوم نفسي، أم ذاك
الذي ما عاد صديقي بعد أن سلمني سرًّا لم أطالِب به ؟!
أتوسّد مسند الأريكة صاغرا للريبة والهواجس، ثم أستقيم محاولا نفض أفكاري السوداء
على الورق الذي كنت عودّته معاقرة الشعر حد الانتشاء، تستحيل أصابعي عيدانا يابسة،
فأضع قناع الرضى على وجهي، وأتناهى من جديد قصاصة مبللة تركب الموج البشري المندفع
في الشوارع، أستدرك نفسي أخيرا على باب مركز أمنيّ قريب، فيعصف بي الخوف والتردد
والندم، ويكتسح المشهد ضبابا ثقيلا يواري كل شيء عدا الحراس. ينهرني أحدهم، فأتلعثم
في اعتذاري، وأعود من حيث أتيت...
وتمضي أيام قليلة.. طويلة.. مظلمة. وأنا على حالي، أجاهد للهرب من ذكرياتي القريبة
بارتياد حلم بالفرار إلى بر آمن، فيترصدني نفس الخيار المر، ويطالعني في كل ركن من
أركان المنزل وجهان فظَّان يطبقان عليّ الحصار، وينفث شرار عيونهما رماد حرائق لم
أكن لأضرمها قط .... وجه صديقي الصارم العبوس، ووجه محقق لا تشي تفاصيله بإشارة
واحدة عن صنوف الجحيم.
أي نهاية لا يستحقها أمثالي من الناس هذه التي انتهيت إليها ؟!
لا خلاص لي إذًا إلا بالسفر إلى أرض محايدة تخضّر فيها أصابعي، وتبرعم أشعارا على
الورق.
أسدل ستائر البيت على حراك دءوب يروم التفلّت من شرك الظنون، وتبديد ساعات النهار
تشاغلا في انتقاء متاع مناسب ألمه في حقائب السفر، وتمضي ساعة الحائط تعبس في وجهي
كلما خانتني التفاتة إليها، وما إن يقبل الليل ويقترب يومي الطويل من نهايته، حتى
تتخلى عن فظاظتها شيئا فشيئا.
في لحظة شاردة أفلت فيها من الأشباح التي تحاصرني، وأغطّ في نوم عميق وقد أعياني
الترقب والهلع.
وتمر ساعات طويلة وجسدي الثقيل مطروح على حاله، ويفوت موعد كنت قد أبرمته، ومواعيد
أخرى كان بمقدوري أن أعوّض بها، ويشرف نهار جديد على الأفول، فأزيح جفنيّ الثقيلين
عن سقف الحجرة الموشَّى بضوء برتقالي نافذ من النقوش المطرزة على الستائر، وأهمّ
بالنهوض فلا أقوى، وأوعز لأطرافي بالحراك فلا تستجيب، أقول:
_ لعله حلم آخر من أحلام اليقظة التي تنغِّص عيشي منذ أيام.
وأصارع بجنون كي أبدد هذا الوهم العارض، فأسقط عن السرير، وأصرخ صرخة مدوية تتناهى
فيما يتلو من الأيام عويلا يلازم ترحالي بين الأسّرة البيضاء، وبريق دمع يموِّه كل
ما أراه، حتى ينتهي بي التطواف حبيس مقعد متحرك، أقوده في الصباح إلى شرفتي الواطئة
المطلة على الشارع الموارب، ويقودني في المساء إلى الفراش.