ذكريات مبعثرة...
ناجي فرحات - 03\11\2010
ها هو يركض في الحقل يلاحق الفراشات والحشرات التي تتقافز إمامه، طفل لم يتجاوز
السادسة من عمره يركض فرحا وهو يمارس هوايته الطفولية في محاولة لالتقاط الفراشات،
يستوقفه ضفدع صغير يتسلق ساق إحدى النباتات التي نمت على ضفاف بركة الماء، يحاول أن
يضع إصبعه عليه، يقفز الضفدع إلى ساق أخرى، ويقفز قلبه فرحا، هو ذلك الفرح الطفولي.
يتسلق شجرة التوت يحاول الوصول إلى احد الأعشاش فيها، يشاهد صغار العصافير فاتحة
فيها ضانة أنه الأم التي عادت بالطعام، يبتسم لها، يداعب مناقيرها الصغيرة بإصبعه
الطرية، تحاول التقاط إصبعه عبثا، يسرع ساحبا إصبعه وابتسامته الطفولية تغمر وجهه
المتسخ بالغبار وشعره الذي علقت به بعض الأغصان الصغيرة والأوراق،يودع العصافير
الصغيرة بابتسامة، ويلوح لها مودعا.
على جانب البركة يرى ابنة عمه نهاد التي هي في مثل عمره، يناديها بصوته الصبياني
الضاحك، تعالي نبني بيوتا من الطين؟؟؟
تبتسم له بمكر طفولي وتشير إلى فستانها الأبيض الذي تختال فيه كالعروس.
- أخاف أن يتسخ فستاني، ستعنفني أمي، وتمنعني من اللعب لأسبوع كامل.
- ما دمتِ تعرفين أن هذا الفستان قد يتسخ من اللعب بالطين، لماذا لبسته أصلا...؟؟
تهز رأسها بغنج ودلال، وتدور حول نفسها كالفراشة، وتقترب منه، تطلب منه أن يخرج من
الطين ليذهبا لقطف الزهور من بين الصخور.
يفاجئها بمكر طفل يحب العبث، كيفما كان هذا العبث، غير عابئ بنتائجه، يمسك كتلة من
الطين السائل ويرشق بها نهاد، راسما على فستانها الأبيض بقعا طينية ذات لون بني ،
أخذت تنتشر وتتسع شيئا فشيئا.
تنظر إليه بغضب وحزن دفعاها للهجوم عليه والقفز عليه كأنه ساق شجرة تتسلقها، رمته
في الماء البني الممزوج بالتراب، أمسكته من شعره وغطست رأسه وهي تصيح:
- ما دمت تريد هذا فتحمل يا أزعر!!!
فجأة توقفا عن العراك، وقف كل منها قبالة الآخر ينظر إليه ويضحك مقهقها للشكل الذي
هو فيه ناسيا انه يملك نفس الهيئة المزرية المتسخة.
- ستأتي معي إلى البيت وتخبر أمي انك أول من بدأ وأن لا ذنب لي فيما حدث.
- وأنا ماذا سأخبر أمي؟ قال لها.
بعد جدال طويل، اتفقا على أن يلفقا قصة يرويانها وينقذا نفسيهما من التعنيف.
ذهبا إلى بيت نهاد أولا، وما أن رأتهما الأم حتى أخذت تولول وتصرخ مهددة ابنتها،
تلك الصغيرة الشقية التي أخذت تجهش بالبكاء، مما حدا ببطلنا الشقي الصغير البدء
برواية القصة:
- كنا نتمشى على جانب البركة وفجأة انزلقت رجل نهاد فسقطت على الماء الموحل في
البركة فهببت لنجدتها وتزحلقت إنا الآخر بدوري وها نحن كما ترينا يا امرأة عمي
الحبيبة، ولكن نعدك واقسم أيمانا مغلظة أن ينتبها في المرة القادمة، ولا يقعا في
البركة.
ضحكة أم نهاد ضحكة طويلة بعد أن كانت مستاءة من منظرهما وهي تعي أن هذان الصغيران
كاذبان، وأن شقاوة الطفولة والعبث هو الذي فعل بهما ما فعل.
أدخلتهما إلى البيت ثم غيرت ثيابهما بعد حمام احمر جلدهما له من كثر ما دعكتهما
الأم وكأنهما قطعتي ثياب بين يديها.
في السنة التالية، على الطريق المتعرج المؤدي إلى المدرسة الابتدائية اليتيمة في
القرية، يلبسان اللباس المدرسي الموحد ، مريول ذو لون كاكي يصل إلى الركبتين، يحمل
كل منهما حقيبة تحوي دفترا وقلما وبعض اللوازم المدرسية، يركلان الحصى على الطريق،
يضحكان، يقهقهان، يخرجان عن الطريق لملاحقة "جندب" أو فراشة، يتدافعان، يغنيان،
المدرسة وبوابتها الحديدية الكبيرة، غرفة الصف ورائحة المقاعد الخشبية، ضحكات
الأطفال هنا وهناك، صوت المعلمة ذو النبرة الحزينة الجميلة، عرائس اللبن والجبن
والزعتر، كتابة الوظائف، حفظ الأناشيد، بري الأقلام، اللعب في باحة المدرسة أثناء
الاستراحة، إنها الطفولة في أجمل صورها شهدها هذا الطريق وتلك المدرسة طيلة الأعوام
الستة القادمة.
تمر السنوات مسرعة تسرق منهما لحظات الطفولة الجميلة، يكبران، يبتعدان، في السنوات
التالية، والتي تسمى المرحلة الإعدادية، أصبح لكل منهما مدرسة في مركز المنطقة
المجاور لقريتهما، هي ذهبت لمتابعة الدراسة في مدرسة البنات وهو في مدرسة الذكور،
كان ذلك بداية الطريق لانفصالهما، بالرغم من أنهما كانا يترافقان في طريق الذهاب
والعودة من المدرسة.
في المرحلة الثانوية، أصبحا يلتقيان أحيانا، يسلمان على بعضهما كالغرباء، كل منهما
أصبح له " شلة " وأصدقاء واهتمامات، ولكنهما في قرارة نفسيهما كانا يعلمان انه لو
التقت نظراتهما لثوان قليلة فإنهما سيستعيدان شريط حياتهما الماضية طفولتهما
البريئة، بكل تفاصيلها الجميلة.
حصل على منحة دراسية، وذهب للدراسة خارج البلد، حاملا معه ذكرياته، وطيبة القرويين،
ورائحة بساتين العنب والرمان والتين، العفوية المعتادة للريفيين في التعامل مع
الغير، وشغف كبير للدراسة، هناك في تلك البلاد البعيدة بدأت مرحلة جديدة من حياته،
في السنة الأولى لم تكن تخطر على باله الذكريات، فاكتشاف البيئة المحيطة والحياة
الجديدة والتعلم كان يشغل كل وقته، ثم بعد أن اعتاد على المكان أخذت الذكريات تطفو
إلى الذاكرة بين الحين والأخر، لتصبح بعد فترة قليلة الهاجس الذي يقلق راحته.
لم تكن تطفو أي ذكرى ولو كانت صغيرة إلى ذاكرته، إلا وتقفز معها صورة نهاد، كيف لا
وكل ذكرياته مرتبطة بهذه الشخصية الجميلة، ذات يوم تذكر حادثة البركة وتراشقهما
بالطين، اشترى بطاقة بريدية فيها أولاد يلعبون بالرمال على شاطئ البحر، وكتب أول
جملة لها، لنهاد، نعم، نهاد الصغيرة اليافعة الكبيرة، في كل حالاتها كانت توأم روحه،
تلك الجملة التي مازال يرددها حتى اليوم:
حبيبتي نهاد:
عندما أشعر بالحنين إليك أضع يدي على قلبي، فهو المكان الوحيد الذي أعلم أنك موجودة
فيه.
أيها المشاغب الكبير أكنت بحاجة لكل هذه السنوات حتى تعرف أنها تسكن منك القلب
والروح، لماذا لم تفكر بها هكذا منذ سنين؟؟؟
وضع البطاقة البريدية في مغلف زهري معطر، ثم وضعه في حقيبة صغيرة يحتفظ فيها
بذكرياته، لم يشأ أن يرسلها لها بالبريد فبعد عام أو عامين سيعود للوطن وسيسلمها
البطاقة بنفسه.
كم أنت ساذج حين فكرت بهذه الفكرة، أتراها تعلم بالغيب أن هناك بطاقة بريدية كُتبت
لها، ولم ترسل، لأن ساذجا ظن أن تسليمها باليد سيكون له أثر أكبر ومعنى أكبر؟؟؟؟
وما زلت حتى اليوم كل ما طفت الذكرى تضع يدك على قلبك!!