قراءة في قصيدة "من
سُعالِ الهزيمة" لكاتبها حسام عباس
نزيه بريك - 06\11\2010
ككل مرةٍ، تستوقفني كتابات الصديق حسام، بل أكثر ما يستوقفني هو عمارة النص التي
تستمد مكوناتها من روح الفن التشكيلي، حيث ينفتح النص على دلالات وتأويلات متعددة
الاتجاهات، تأخذ القارئ إلى أماكن متباينة،وقد تأخذ البعض إلى اللامكان، مما يدفع
إلى خلق تباين في الإحساس والإدراك بين قارئٍ وآخر.
إن شعر الحداثة يمارس لغة تتميز بالغموض والإبهام، فينأى هذا الشعر عن معطيات الحس
الخارجي مركزاً طاقته التعبيرية نحو الداخل.
يعتبر البعض أن النص الذي يمتلك دلالات مختلفة هو نص قوي، لكن قد يلجأ أو يهرب
البعض إلى صيغة الإبهام في النص كي يُلبِسهُ حُلة الدلالات المتعددة، أو وسام "النص
النخبوي". لكن في الشعر الحديث، يبقى هناك فارق بين المعنى والدلالة، فالمعنى ثابت
والدلالة تتغير. ورغم أن البعض يعتبر القراءة ليست مسألة اكتشاف لما يعنيه النص، بل
هي سيرورة اختبار لما يفعله النص الشعري بالقارئ، لكن تبقى مظاهر الإبهام الدلالي
في شعر الحداثة تشكل حواجزاً تمنع المتلقي من مقاربة النص أو إدراك دلالته،
وبالتالي تُصعب عليه ولوج النص الشعري.
أما بالنسبة لي، فعندما اقرأ نصاً حداثوياً مفعماً بالإبهام الدلالي، فإني لا اكتفي
بالأماكن التي يأخذني إليها النص، ولا بالإحساس الذي يُوَّلِده في داخلي حتى لو كان
هذا الإحساس مستوحى من الموسيقى الداخلية للنص، بل تتشكل في داخلي طاقة من التحدي
لمعرفة ما يقصده الكاتب، ودائما يتولد لدي السؤال، إذا ما تمكنت في قراءتي من
الاقتراب مما يريد قوله الكاتب.
الآن، سأشرع في محاولة ولوج النص، وسأبدأ بالعنوان "من سعال الهزيمه". لا شك أن
العنوان فيه دلالة على حال البيئة التي يعيشها الكاتب، وقد يكون سعال الهزيمة مصدره
فردياً –تجربة شخصيه- أو جماعياً –تجربة مجتمع- ، وكلمة سعال فيها دلالة على
الإخفاق الجسدي، أما كلمة هزيمة ففيها دلالة على الإخفاق الاجتماعي، ولا شك أن
الإخفاق الأول –الجسدي- مصدره الثاني. انطلاقا من هذه الدلالات، يضعنا العنوان على
طريق ذات معالم واضحة الاتجاه.
يبدأ الكاتب نصه بقوله: "الآن والبلادُ تجلسُ على هوامشِ هذا
الطحين" فيتضح لنا أن الحديث هنا يدور حول الوضع الراهن للمجتمع الذي يعايشه
الكاتب. إنه مجتمع يجلس على "هوامش الطحين"، وبهذا المصطلح وهذه الصيغة التعبيرية
يتلقى القارئ الصفعة الأولى من الغموض في المعنى، وبالتالي تستدعيه إلى استنفار
طاقته التأويلية والشروع بالبحث عن الدلالات.
إن كلمة طحين لها دلالات عدة، منها دلالة على الخبز الذي يشكل المادة الأكثر
احتياجا في السلة الغذائية عند البشر، وفيها دلالة على اللون الأبيض،الذي له دلالة
على الصفاء والنقاء، أو الحياد. ولكلمة طحين دلالة فيزيائية، كونها مادة صلبة،
لكنها متفتتة وغير ثابتة، أما الهوامش، فهي المناطق الأكثر ضعفا وقابلية إلى
الاندثار والزوال. هذه الدلالة الأخيرة (الفيزيائية)، من وجهة نظري هي الأقرب إلى
روح النص.
ثم يتابع القول: "الآن وفي جيوبِ الله ما زال نائماً إبداعُ
الخريف"
هنا، وفي سياق التأويل والبحث عن الدلالات تستوقفني عبارة "جيوب الله" وعبارة "إبداع
الخريف"؛ فالعبارة الأولى فيها دلالة على ظرف المكان الذي يبدو بعيدا عن متناول
الإنسان الذي يعيش في مجتمع الكاتب، بل أن ذاك المكان يبدو أنه غير مرئي وبعيد
المنال. أما العبارة الثانية، "إبداع الخريف" ففيها دلالة على التعرية (تعرية
الأشجار- تعرية المجتمع) ودلالة أخرى على قدرة التجدد والانبعاث. انطلاقا من هذه
الدلالات، يستقيم التأويل لدي إلى القول بأن الكاتب يقدم صوره سوداوية لحال البيئة
التي يعيش فيها، حيث أن هذه البلاد تجلس على هوامش أرضية متفككة، وبالتالي فإن
قدرتها على التجدد تبدو بعيدة المنال ونائمة في "جيوب الله".
وبقوله: "الآن ومن كفنِ التاريخ يُولدُ سريرٌ لهذا الأنين"
ينتقل من وصف الحالة العامة للبيئة من حوله إلى وصف إفرازاتها على المستوى الشخصي،
فهذا التاريخ القابع في سجون الموت والمستمر حتى الآن وتراكمات هذه الحالة، تُحوّل
الأنين الصادر عن الإحساس بالألم إلى مرض مزمن يستدعي صاحبه ملازمة السرير. من هنا
نستقي صورة عن حالة الشؤم التي دخل بها، لكن سرعان ما يستدرك الكاتب، ومن طاقة
اللاوعي يرفض الاستسلام، فيبقي مساحة من الأمل بقوله: "الآن
وفي دمي تَسبحُ كَسرةُ خبزٍ لم تؤذها إلا مراسيمُ الحريق"، فعبارة كسرة
الخبز فيها دلالة على حالة الجوع التي تسبح في دمه، وفيها دلالة على أمل صغير بسد
رمق جوعه؛ هذا الأمل لم يحترق، لكنه تأذى من مراسيم الاحتراق، وعلى الأغلب فأن هذه
المراسيم هي من صنع الإنسان، وهنا نرى أن الكاتب يلقي مسؤولية الاحتراق على المجتمع
نفسه، وليس على عامل خارجي. وكلمة تأذى توحي أن الكاتب يريد القول أنه غير متأكد من
قدرة هذا الأمل على الاستمرار طويلا، وهكذا نرى أن مساحات التشاؤم والتفاؤل تتداخل
يبعضها، ما يعكس حالة التخبط التي يعيشها الكاتب حيال المستقبل. أما بخصوص تكرار
الكاتب لكلمة "الآن" في الفقرة الأولى، إنما يريد التأكيد على استمرارية حضور
الحالة وإفرازاتها بقوة.
في ظل هذه الاستمرارية وحالة التخبط، ينتقل الكاتب للقول: "يتسللُّ
مِنشارٌ إلى عُنقي يَلبسُهُ نثراً تائها من الصلاة"، وباستعماله كلمة يتسلل
التي فيها دلالة على صفات السارق، يحيلنا إلى حالة الخوف والتردد التي تسيطر على
أجوائه. المنشار له وظيفة البتر، أما الصلاة فلها دلالات على التأمل، الإيمان
والدعاء، وبقوله "يلبسه نثراً تائها من الصلاة" أراد الكاتب أن يحدد الشيء الذي
يريد بتره، ألا وهو حالة الصمت. إذن، بعد التأمل والإيمان في البيئة التي تحيط
بالكاتب، يتولد عنده الإحساس بالحاجة الملحة إلى مغادرة منطقة الصمت والانتقال إلى
منطقه التعبير.
وبقوله: "فيطيبُ لي مُشاهدة ظلّ أسنانهِ متلعثمةً بأجسادِ الكلمات"، يؤكد الكاتب
ليس فقط مغادرته منطقة الصمت، بل إحساسه بالمتعة واللذة والإرضاء وهو يشاهد ظل
أسنان المنشار تتلعثم بالكلمات الخارجة. وبكلمة تتلعثم، يسلط الكاتب الضوء على سير
عملية الانتقال بين الحالتين، حيث لم تكن سهلة، إنما تدريجية، وهذا فيه دلالة أو
إشارة إلى أن معايشة حالة الصمت عنده قد استمرت طويلا، ومن هنا أخذت عملية الانتقال
طابع التسلل والتلعثم.
يعود الكاتب ويؤكد إحساسه بالمتعة والإرضاء حين يقول: كيف لا؟ – ربما كان عليه
استبدال علامة التعجب بعلامة استفهام- ، أي كيف لا يطيب له مغادرة أماكن الصمت،
ويعلل هذا الإحساس بقوله: "وللأحرُفِ المبلولةِ بالأُكسجين
الأخضر، قاماتُ الأنبياء". فالأحرف لها دلالة على مكونات الكلمة واللغة،
وبالتالي على أداة التعبير الشفهية والكتابية. أما الأكسجين الأخضر فيأخذني إلى
مشهد عملية "التمثيل الكرولوفيلي" التي هي أساس الحياة عند النباتات، وبالتالي فإن
هذا المصطلح له دلالة على الحياة النابضة. وهكذا، يشعر الكاتب بعظمة الكلمة -الحالة
التعبيرية- التي تكسبه الحياة النابضة، فيراها شامخة كقامة الأنبياء، بل الحقيقة
أنه يرى نفسه من خلالها شامخا كالأنبياء، وهكذا يقدم لنا الكاتب صورة مقارنة لحاله
ما قبل وما بعد.
وبقوله: "كيف لا؟ ولعلاماتِ الترقيم نزعةٌ لا تموتُ تحتَ هذا
السُكات"، يريد الكاتب أن يشدد على إحساسه بالمتعة والإرضاء. فعلامات
الترقيم تدل على النقطة، الفاصلة، علامة الاستفهام، علامة التعجب الخ...، وبهذا،
يتطرق الكاتب هنا إلى الكتابة كأداة تعبير. فلعلامات الترقيم في الكتابة دور يقوم
على رسم بناء النص وضبط إيقاعه. وهنا نراه يتحدث عن شغفه بالكتابة كأداة لتفجير
وإخراج ما في باطنه، معتبراً أن لها نزعة الخلود، بل أقول إنه يرى نفسه تنزع إلى
الخلود حين يمارس الكتابة.
المقطع الثالث من النص يبدأه الكاتب بكلمة "ولكن"، فيبدو كمن يستدرك ليخبرنا، أن
مغادرته منطقة الصمت _التي بدت جليا في المقطع السابق_ لم تُكسبه المتعة والإرضاء
فقط، إنما راحت تثير في داخله الأسئلة، لتأتي على النحو التالي:
_ لماذا يَقتُلني ما يُحييني الآن من رغبةٍ في مراقبةِ
السُعال؟
_ ولماذا يملؤني ما يَنقصني الآن من عَجز في اختيارِ الغياب؟
_ ولماذا يأتي ما يأتيني الآن من خللٍ في خلايا الانتماء؟
إن هذه الأسئلة إن دلت على شيء، فإنها تدل على ارتفاع منسوب التفاعل عند
الكاتب مع محيطه، وهذا التفاعل الذي ولَّدته الأسئلة يمتلك طاقة دلالية ورمزية على
إحساس الكاتب بالوجود والحياة.
يعود ويتجلى منسوب هذا التفاعل بوضوح في محاولة الكاتب إعطاء أجوبة على تساؤلاته،
والمثير للانتباه أنه صاغ أسئلته بأسلوب التضاد، أي أنه وظف مفردات متضادة، حيث
يقول:"لماذا يَقتُلني ما يُحييني". في الحقيقة، ليس
هناك تناقض، ذلك أن الكاتب يشعر من جهة بالحياة والوجود من خلال هذا التفاعل، لكن
حقيقة واقع محيطه هي التي تقتله – بالمعنى المجازي-. يبدو أن الكاتب أراد بهذا أن
تسليط الضوء على حجم سوء الواقع.
يعود الكاتب في السؤال الثاني إلى توظيف المفردات المتضادة حين يقول:
"ولماذا يملؤني ما يَنقصني...؟". إن ما ينقص الكاتب
هو عجزه عن اختيار الغياب، أي تحديد الآتي والمستقبل، وهذا ما يشكل للكاتب هاجسَ ما
بعد. هذا الهاجس، هو ما يملؤه، بمعنى أنه ما يحتل المساحة الكبرى في انشغالاته.
يأتي السؤال الثالث كمحاولة من الكاتب لتسليط الضوء على إحساسه أن هناك ثمة خلل في
خلايا الانتماء، والخلايا ما هي إلا الرئة التي يتنفس منها الجسد –جسد الانتماء-
وهذا الخلل في الرئة قد يؤدي إلى قتل جسد –الانتماء-، وبالتالي إلى زواله. ويُلقي
الكاتب باحتمال السبب، على بيئته الواسعة التي يستفيق الجهل بها من أدمغة الحراس.
وكلمة الحراس، لها دلالة على القيادة السياسية التي تعتبر نفسها وصيةً على المجتمع.
في محاولته الإجابة على أسئلته، نرى الكاتب يعتمد ثنائية الاحتمال، ودائما ينسب
الاحتمال الأول إلى محيط مجتمعه، والاحتمال الثاني إلى ذاته. ونلاحظ أيضا أن ثنائية
الأجوبة التي يقدمها، تأتي بصيغة السؤال. وهذا يأخذنا للقول إن الكاتب لم يصل حتى
الآن إلى أجوبة قاطعة حول تساؤلاته، ما يدل على أنه ما زال يعيش حالة البحث
والاستكشاف، وتلك مقرونة بالقلق والتخبط.
لكن سرعان ما نراه في المقطع الأخير تخطى مرحلة البحث والاستكشاف القائمة على
ثنائية الاحتمال لينتقل الى مرحلة اليقين القائمة على أحادية الاحتمال، حيث يقول: "هي
الحقيقةُ يا بلادي تَغتسلُ بلعابِ طفلةٍ شقية"، وبقوله "هي الحقيقة"، يظهر
إحساس الكاتب بالجزم إلى إدراك الجواب. وأما أن الحقيقة تغتسل بلعاب طفلة، ففي ذلك
دلالة على البراءة والشفافية وعدم الالتباس.
وحين يقول: "فتبحثُ عن حَبلِ غسيلٍ يُحدقُ في غيومِها العسلية"، فليست الحقيقة هي
التي تبحث عن حبل غسيل، إنما الكاتب هو الذي يبحث، وحبل الغسيل فيه دلالة على إخراج
الشيء إلى العلن. وهكذا فإن الكاتب قرر إخراج الحقيقة من مخبئها ونشرها في العلن،
بمعنى فضحها. لكنه يؤكد على إصراره بقطع الطريق أمام نشر الحقيقة -نشر الغسيل- على
احتمال خلق ضعضعة وتفكك في هوية انتماء الكاتب.
يتابع الكاتب ليكشف لنا مكونات هذه الحقيقة فيقول:
"هي الهزيمةُ يا بلادي تنمو في ثيابِنا الداخلية".ومكونات
هذه الحقيقة ما هي إلا الهزيمة، وبقوله "تنمو في ثيابنا الداخلية"، إنما أراد تحديد
هوية الهزيمة، وهي الهزيمة من الداخل.
يحتم الكاتب قصيدته بقوله: "والآن كفى لكل هذا الهراء". يبدو أنه تكون للكاتب إحساس
بالاستعلاء والسخرية اتجاه هذه البيئة، بعد نيله ما أراد، وهو تعرية الواقع. ويتابع
القول:
" أما آن لكَ أنْ تغربَ عن صدري أيها السعال؟". نلاحظ
هنا أن الكاتب يتحدث بإحساس الواثق من نفسه، وقد يكون هذا عائداً إلى ثقته بأنه
تخلص من الإخفاق على المستوى الشخصي بعد مغادرته منطقة الصمت، وبالتالي أصبح على
هذا السعال لزوم المغادرة.
مع فائق الاحترام
نزيه بريك