إيهاب.. ُردَّ لي كنزتي الصوفية
داوود الجولاني – 10\11\2010
المطرُ جاء إيهاب.. أخيراً جاء. أتى هذا العام متأخراً مسكوناً ببرد قارس، فك أزرار
قميصي ورماني في بقعة وحل.. هل تذكرني ؟ اسمك إيهاب علي اليوسف. من السودان أنت..
التقينا في مدينة اسمها باكو، كنتُ وحيداً أبحث عن رفقة فعرفتني على شاب فلسطيني
قدم لي نفسه باسم مستعار، وهو ينعي لنا شهداء بلدته في الانتفاضة الأولى.. وها هو
الآن يسكن في مدينة نابلس، يعمل ضابط شرطة، يحمل اسماً مستعاراً أيضا، ويبحث عن
دولة.
هل من الممكن بناء دولة تحت طاقية الإخفاء..؟
ثم لاحقا عرّفتني على شابين من سوريا، فرحتُ بهما، واحد كان يغشنا في بيع السجائر
المستوردة، ثم سافر ليجلس خلف طاولة في شقة فاخرة لتشجيع الاستثمار الأجنبي.. ولكني
حتى الآن ما زلت أشتري منه.. والآخر كان يجيدُ تجهيز المأكولات الشامية، وكان يخفف
الملح عن الطعام، لأنه يعرفني لا أحب الأكل المفرط
بالملح، ولكني سمعت لاحقا أنه لما مشى فرحا بشهادته في الطريق الوعرة المؤدية إلى
قريته، سقط في جب شوك، وأن شتاء مالحاً يسقط فوق جراحه ويؤلمه... ولكني لم أخفف عنه
ولو بقصيدة شعر...هو حي بعد لا تقلق عليه.
...
هل تذكر؟.. كيف أمام ضفاف فستان زميلة من اليمن، شربنا القهوة الممزوجة بكونياك
أرمني، ورمينا بكعب حذائها ضفاف البحر.. أحببناها وغافلنا كل النساء التي غازلتنا
وكأن لا جمال يسكن إلا العربيات..
وقتها اختلفنا حول سؤال اعتبرناه جوهر وجدودنا.. الزميلة اليمنية.. من منا تحب؟..
ولكننا لما رأينا الشاب.. صديقنا في المعهد، الذي أعد لنا عشاءً في منزله، يقابل
ضحكاتها الطيبة بمساء الخير.. نعتناها بفاجرة..
لماذا؟ لأننا رجال، نخون خلسة وبسهولة، ونكتب في دفاترنا أن الأخلاق خُلقت للنساء.
الزميلة اليمنية التي أهدتني قبل أن تعود لمدينة عدن شريطاً للفنانة نجاة الصغيرة،
قالت أن فيه أغنية تتكلم عن الفساتين المهملة. لم
توظف كما كنا نحسب في وزارة الخارجة، وإنما زُفت زوجة في خيمة، قهوتها ساخنة وجاهزة
للشعائر، وما يتلى قبل العيد من أناشيد.. وترانيم دينية..
الشريط مازال في حقيبتي.. ولكني لم أسمع الأغنية بعد..
المطرُ جاء إيهاب....
مازلت أذكرك.. لا تتغابى، قلتها لي من قبل، إنك ستتذكرني مع سقوط أول مطر جولاني
يتسم بالحب.. إيهاب المطر يتساقط الليلة بعنف القبلات المحرمة فوق فراش نبي مريض
يسكن في قريتي منذ برهة من الزمن. لكن البرد.. لم يترك مجالا.. لا للنبي أن ُيتلي
حبر الكلام المنزل من السماء، ولا للمطر الذي يتسم بالحب..
إيهاب هل أنت حي لتجيب؟.. يقال أن في بلادك الفقيرة يطبخ الشعراء سطورهم في قدور
ويقدمونها للصغار، بينما الساسة يسلقون البطاطس لعسكري يقف على باب.. ينتظر فتاة
ارتكبت الحب.
وها أنا أذكرك.. لماذا؟ لا تسأل.. هل أنت حي أصلا لتسأل؟.. ألم يقتلك الجوع؟ ..
إيهاب أنا قتلتني التخمة...
أريد كنزتي الصوفية.. التي حاكتها أمي وأهديتك إياها لأني كنت سمينا.. ولكني اليوم
أشعر بالوهن والضمور.. أشعر أني أحتاج لكل صوف العالم.
هل نقول لهم لماذا حطمت القيثارة فوق رأسي في قاعة الفندق المطل على البحر.. وقتها
قلت لك: "أنا جولاني"،
وأنت قلت:" أنا سوداني".. سخرت منك قليلا وسألتك ماذا فعلتم بمحجوب..؟ فعزفت على
قيثارة كانت أوتاراها بين رمشك وشفتيك.. أغنية للفنان السوري سميح شقير "بيدي
قيثارة"، ثم بكينا، أنت حزنا، وأنا وجعا..
هناك سرٌ لم أقله لك.. أتعرف؟.. أن زميلتنا اليمنية، في ليلة كان مساؤها معكراً،
خرجت من خيمتها وثيابها مبللة بالبن ورمت نفسها بالبحر..
..
هل تذكر كيف لون كان لون جسدك أشد من الليل حلكة؟، وكنت تفتخر بقولك: "أنا من بلد
النيل الجائع، ومن قرية تحاذي نهراً بارعاً.. وكنت أجيبك: "أنا من قرية تنام في كفي
جبل عالٍ... كنت حينها تضحك وتدق أوتارك بصمت الفحم، ووجنتاك تتقدان بوهج الجمر،
وتغني الشعب السوداني.. "يا محجوب لسّه ناوي.".
باكو... أتذكر بحرها وبهو الفندق المطل على البحر؟.. كأس قهوة وجرعة من كونياك
أرمني وجريدة جمعتنا.. وقتها تقدمت منك، كنت تجلس قبالة زوجة بحار جميلة، وبيدك
جريدة طلبتها منك، قلتَ خذها، وسألتني:
"هل تقرأ اللغة العربية؟"
أجبتك: "لا أعرف بعد..." ثم ضحكنا، وقتها تعرفتُ عليك وانسحبنا من بهو الفندق.. أنت
تاركاً زوجة البحار وأنا تاركاً جريدتي وتعلمنا لغة أخرى، لغة ليست صعبة ولكنها
باردة وموحشة... لغة البرد..