الثلجة
الاولى
نبيه الحلبي - 13\12\2010
اربعون يوما حبس الناس في بيوتهم.كانت الثلجة تتلو الاخرى.ما كانت تهدا عاصفة حتى
تلحق بها اختها.كنت اسمع جدي يقول انه كان على دورنا ياتي سبع ثلجات كبار ما عدا
الصغار.كم كنت افرح لجدي حينها .كنت اتخيل الفرحة على وجوه اجدادي عندما ياتيهم ثلج
كثير.وعندما صرت افهم الاشياء اكثر اكتشفت ان ليس هكذا كان واقعهم,وسمعت من جدي مرة
يروي كيف كادوا ان يهلكوا هم ومواشيهم في تلك السنة القاسية. التي ما زال جدي
يذكرها ويروي احداثها بتفاصيلها الشيقة والمحزنة والبطولية....
اربعون يوما مر على المجدل ولم يفارقها اللحاف الابيض السميك الذي غطى على كل
شيئ.ما عاد يرى من البيوت سوى الدخان المتصاعد من المداخن الغرقى بالثلج.وبعض اسقف
المنازل الرفيعة .واصوات الناس بين الفينة والاخرى تسال عن سلامة بعضها البعض.
جاع الطرش(المواشي) وعطش.لم يحسب احد لهذه الثلجة حساب.تعودوا ان يصبروا على ثلجة
مدتها اسبوع او اثنين او ثلاثة بالاكثر لكن ان يستمر الثلج لاربعون يوما فهذا من
النوادر في بلادنا..حتى الاحطاب التي خزنوها لاذابة الثلج على نارها ليشربوا ويسقوا
طرشهم منها بدات تنفذ.كان ثغاء الاغنام يعلوا كل يوم اكثر, جف حليبها
والقراقير(الخراف) ضعفت وهزلت.والماعز ما عادت تسقي من حليبها الاطفال الرضع في
البيوت المحاصرة بالثلج.كم كانوا يعتمدون على بعضهم البعض..ناسنا ومواشيهم..مصدر
رزقهم الرئيس .فكيف لاتكون بينهم وحدة بقاء واستمرار..
في اليوم الاربعين اخذ القرار ..كانوا يسمعون ايضا من اجدادهم ان اياما ولياليا
صعبة مرت على بلدنا وكانوا بعد طول احتمال يفتحون مسالك في الثلج الى عين الضيعة
وعين القصب لتشرب المواشي.في اليوم الاربعين خرج احدهم ينادي من على ثلج سطح بيته
الترابي." يا نشامى , يا صحابين النخوة ,يا اهلنا يا اخوتنا,كل مين عندو رفش,بنا
نفتح طريق للطرش لعين القصب".
في هدوء الصبح الابيض.والثلج من على الارض يقطف ثلجا من الغيم نازل.وصل الصوت لكل
البيوت. والمواشي سكتت وعرفت بغريزتها ان اصحابها سينقذوها من هلاكها عطشا.هي مثلهم
تصبر قليلا على الجوع اما عن الماء فلا .اما الشرب او الهلاك..
لبس الجميع ما امكنهم من ثياب ,ولف الرجال القضاضات والشماخات على رؤوسهم .وبدأوا
يفتحون مسارب وممرات على بيوت بعضهم البعض.والنسوة بدأن بتوسيع الممرات امام
الزرائب لخروج الطرش .والاطفال خلف امهاتهم يجمعون الجدا والقارقير لسوقها الى
العين.
وبدات تنطلق النخوات من كل الحارات ,والثلج يعلو هامات الشباب .وكان يعلو اكثر
عندما يرمون فوقه الثلج المزاح من المسارب.
ام علي خافت على زوجها اخذت توصيه وتذكره بحادثة جدها عندما غرق بالثلج واختفي
ووجدوه بعد ان ذاب الثلج.ابو علي قصير القامة لكنه لم يلتفت ليرد على زوجته مشفقا
على ضعف قلبها وجبنها.وكان يقفز من حين لاخر ليرى كيف سيوجه طريقه ليلتقي بجاره .
وحمدة العروس الجديدة اكفهر وجهها عندما سمعت المنادى .وسكتت حتى اكمل عريسها لباسه
وتناول الرفش.فقالت له "ما عنا طرش لشو تتعب حالك" فزجرها بنظرة غاضبة ورد عليها
بعد ان تمالك اعصابه "اهل بلدي بحاجتي وبدك ياني اتفرج على مصيبتهم..جهزي حالك
ودوري على بيوت الحارة شوفي شو محتاجين" امتقع وجهها خجلا من ابن عمها بعد ان ادركت
هفوتها وبدات بسرعة تحضر نفسها وبعض الاغراض لمساعدة اهل حارتها..
والطفل حسين بدا يلبس جزمته المطاطية ويلف راسه بقضاضة كما فعل والده ..سالته امه "لوين؟"
قال لها انه سياخذ جديته الى العين ليسقيها .كان يفيق بالليل فيذهب الى الغرفة
المقابلة التي كانت مخصصة للطرش ليحضر جديته ويبيتها في حضنه .وقد سمع حسين من ابيه
انه ينوي ذبحها قبل ان تموت .وهذا ما اخاف حسين كثيرا وهو الذي شهد ولادتها على
شاطئ بركة مرج المن قبل اسابيع .
واما احمد الفتى الغض الممشوق وجدها فرصة ليفتح الممر لبيت حبيبته سلمى .وعدته على
العين انها ستخبر امها انه طلبها.واتت الثلجة ومنعته من رؤيتها اربعون يوما.ظل يرمي
الثلج على جانبي المسرب حتى فاجأ عمه ابو سلمى الذي اعياه التعب وهو يحاول وصل ممره
بالممر الرئيسي الواصل للعين.ربت على كتفه يحيه على نخوته .ورأى احمد في اخر الممر
سلمى وقد لفت قدميها بلبادة بيضاء تعلو حتى ركبتيها, ولفت راسها بفوطة بيضاء
كالشباب. وأمسكت بقرن تيس, في رقبته جرس, تحاول تهدئته حتى يحين دورها على العين.
بدأت تنوصل المسارب بعضها بالاخر .والوجوه يبللها العرق المتصبب. لكنهم فرحوا بهذه
الهبة التي وحدتهم وانقذتهم من هلاك منتظر.وبدا الممرالواسع ينفتح نحو عين القصب
وتداور الجميع في فتح المسرب . شاب قال فجأة انه يتمنى ان لا نجد العين وقد تجمدت ,فيهلك
طرشنا ويذهب تعبنا خسارة .فاجابه بعجل وبحنق شيخ ثمانيني, ان لا تقنط من رحمة الله
"والعين بعمرها ما جمدت".
وصلوا عين القصب وبدأت المواشي ترد الماء المتفجر من بين الحجر المصقول بايدي من
سبقوهم في شرب ماء هذه النبعة.وصار الجميع يطمئن على من حوله ..يتقاسمون ما بقي
عندهم من زاد وطعام .ويرممون بعض البيوت التي تصدعت اسقفها من حمل الثلج.
حل المغيب والماشية ارتوت,والنفوس هدأت قليلا. وهم الثلج المستمر ربض على الصدور,,
حتى اتى صبح اليوم الواحد والاربعين.وكانت الشمس الساطعة تحيي الجوعى المنهكين من
الشقوق المتبقية فوق الثلج اعلى النوافذ. فاستبشروا بانتهاء العاصفة.وما انتصف
النهار حتى بدأوا يسمعون خرير الماء ينسل من تحت الثلج معلنا عن ربيع قادم ليس له
مثيل.واعتلى الجميع السطوح يدحلونها وهي من تراب وخشب يأويهم مع طرشهم .ورأوا من
بعيد سهل اليعفوري سجادة بيضاء يتلوى فيه كالافعى نهر سعار فيقطعه مختالا من شماله
الى جنوبه . يبلغهم انه المرج الذي سيظهر لهم من جديد بعد ان يذوب الثلج.