الأذن تعشق قبل العين أحيانا - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


الأذن تعشق قبل العين أحيانا...
ناجي فرحات - 21\12\2010
صراحة، لم يكن يعلم ما ستؤول إليه حالته، لم يكن يتوقع أن يكون شعر بشار بن برد حقيقيا لهذه الدرجة، وأنه سيكون أسير بيت من أبياته أو شطرا منه، و يستخدمه ليبرر حالته، ((( الأذن تعشق قبل العين أحياناً ))). نعم لقد ألِفَ وعشق صوتها أولاً، حتى أحس أنه يتملكه، كان يحسّه يزحف بطيئاً كسلحفاة، فوق جسده وروحه ليغطيه ويغمره بعباءة من الحنان والطمأنينة، صوت ترتاح له النفس، وتسمو مع نبراته وموسيقاه الروح. تعرف إليها من خلال غرفة صوتية على الانترنت، في البداية، شدّه إليها رقة وعذوبة صوتها، كانت كلما قدمت شيئا في الغرفة، أستلم اللاقط ليثني على أدائها وحسن إلقائها، ثم صار يجيب على ما تقدمه بمثله، فلو قالت قصيدة كان يجيبها بقصيدة، يلمح من خلالها لمشاعره اتجاهها، وأحيانا كان يعنيها بكل كلمة يقولها. أُعجب كل منهما بإمكانات الآخر، ثم بعد فترة قليلة، أعطى كل منهما عنوان بريده الإلكتروني للآخر، صارا يمضيان قليلا من الوقت في الغرفة الصوتية، ثم ينتقلان ليتحادثا عبر بريدهما الإلكتروني. لم يعتقد للحظة واحدة أن هذه الحياة الرقمية ستصير عنده هاجسا وهدفا. كان يطير فرحا إذا رأى بريدا قادما منها، ويغمره فرح طفولي، إذا أضاء بريدها أمامه على شاشة حاسبه، أمضيا ساعات طوالاً، يتحادثان ويتعارفان، استخدما الكاميرا وتعرف كل منهما على صورة الآخر، بعد أن عرفه ، وأحبه، وعشقه، من خلال صوته،لم تغير الصورة شيئا من العلاقة بينهما، فقد تملك حب ذلك الصوت فيه حتى جعله يراها مليكة قلبه وسيدته، جميلة الجميلات، نعم لقد غرق في بحر حبها، وبالمقابل كان يحس أنها تبادله نفس الشعور بالحب الجارف الذي لم يكن هناك حدود له، صارح كل منهما الآخر بحبه ومشاعره خلال الساعات الطويلة التي كانا يقضيانها مع بعضهما، كلٌ من خلف شاشة حاسبه، في المكان الذي يقيم به. تصوروا هذه التقنية الجميلة المسماة ” انترنت ” كم قربت المسافات بين الأشخاص، وكم كسرت الكثير من الحدود والعوائق بينهم، فإنه لم يتصور في يوم من الأيام، أن تجمعه علاقة حب بفتاة تقيم في أوروبا، وأين هو من أوروبا ذلك الحلم الذي قضى الكثيرون نحبهم ولم يحققوا أحلامهم بالذهاب إليها، كيف يصل أوروبا، وهو هنا في هذا الوطن الذي يفرض عليه إظهار بطاقة هويته وجواز سفره، حين يتنقل من بلد لآخر، أو من مدينة لأخرى، وأحيانا ضمن نفس المدينة، يتوجب عليه أن يعلن عن نفسه ويظهر بطاقته الشخصية أكثر من مرة. كانا يعلمان يقينا هما الاثنين، أن لقائهما في الواقع مستحيلا، لأسباب كثيرة تتعلق به وبها، ولا أريد أن أشرحها هنا، لأنها لا تقدم أو تؤخر في الأمر شيئاً. خلال شهر واحد، بلغت درجة حرارة حبهما حدا كان يحس فيه أن أسلاك الكهرباء ستنصهر أن شاشة الحاسب ستنفجر، من حرارة الشوق واللهفة اللتان تتملكانه، كلما كانا يتحدثان سوياً. خطرت له فكرة عندما كان يتابع مناظرة في التلفزيون، تتحدث عن نوع من الزواج، يسمى زواج المسيار، لأول مرة يسمع بهذا المصطلح، ولكي يعرف ماهيته وكيفية عقد مثل هذا الزواج، بحث عنه على محرك البحث الشهير على الانترنت ” غوغل “، كتب في خانة البحث: ” أنواع الزواج المعروفة في الوطن العربي “، وكم كانت دهشته كبيرة وهو يطالع أنواعا من الزواج لم تكن لتخطر على بال إنسان يعيش في هذا المجتمع. تعرف على أنواع عديدةٍ من عقود الزواج، بدءاً بالزواج الرسمي المتعارف عليه، والذي يتم ضمن نطاق مؤسسات المجتمع الرسمية، بحضور الأهل والأصدقاء والمأذون والولي والشهود، وكذلك الزواج العرفي، وهو عقد غير موثق بين طرفين، الذي يتم عن طريق أحد المشايخ، بعيدا عن رقابة مؤسسات المجتمع الرسمية. ثم تعرف على زواج المسيار، أو زواج الإيثار هو زواج ومصطلح اجتماعي انتشر في العقود الأخيرة بالدول العربية وبعض الدول الإسلامية. ويعني أن رجلا مسلما متزوج زواجا شرعيا مكتمل الأركان من رضا الزوجين وولي الأمر والشاهدين وتوافق الزوجة على التنازل عن حقوقها الشرعية في الزواج مثل السكن والمبيت و النفقة. أما زواج المتعة أو المؤقت وهو إلى أجل لا ميراث فيه للزوجة، والفرقة تقع عند انقضاء الأجل. ثم كان هناك زواج الكاسيت، تصوروا زواج الكاسيت والذي من خلاله يسجل كل من العروسين تسجيلا صوتيا يردد فيه ما يقوله خلف المأذون الشرعي، ثم يقوم بتسليمه للطرف الآخر، ليصبحا بعد ذلك زوجين، وهذا الزواج شائع بين طلاب الجامعة في عدد من البلدان العربية، ثم اطلع على نوع آخر يسمونه زواج الطابع، وفيه يشتري العروسان طابعين متماثلين، ويلصق كل منهما أحد الطابعين على جبين الآخر، ليصبحا بعد ذلك زوجين.ونوع أخر يدعى زواج الوشم … وزواج الفرند… خطرت له فكرة جهنمية، لماذا هو أيضا لا يجد طريقة تجعل من هذا الحب الرقمي علاقة شرعية، مادام الكل يفتي، لماذا لا يجد فتوى تبيح له ما يظنه الناس خطأً. نعم، لماذا لا يكون هناك ما يدعى بالزواج الرقمي، حيث يتلو كل من العروسين، كل من أمام شاشة حاسبه، ما يردده خلف المأذون الشرعي، بل ويمكن أن يدعى مأذونا شرعيا رقمياً، وشاهدان يحضران هذا عبر الانترنت، شاهدان رقميان، وبعدها يمكن إقامة عرس رقمي، يدعى له الجيران من الغرف الصوتية المجاورة، الصديقة والشقيقة، وحتى المعادية منها، فكل شيء في العالم الرقمي متاح. طرح هذه الفكرة على حبيبته الرقمية، استغربت في البداية، وبعد أن شرح لها الفكرة، وقدم المبررات، وافقت،على أن تكون العصمة بيد كل منهما، أي أنه يمكن لأحدهما دون الرجوع للآخر فسخ هذه الزواج بدون أي حرج،لا يهم مادام كل شيء رقميا، فعلى الأقل سيكونان أول زوجين رقميين يتحدث عنهما العالم، وقد يدخلان كتاب غينيس للأرقام القياسية. وكان ذلك، في اليوم المحدد، دعا ثلاثة من أصدقائه، واحد منهم يقوم بدور المأذون، كتب له ما يتوجب عليه قوله ليرددانه وراءه، والاثنان الآخران، يكونا الشاهدين على الزواج. دخل غرفتهم الصوتية التي يجتمعون بها وأخبر مشرف الغرفة عن زواجه الرقمي واستأذنه أن يقيم عرسه فيما بينهم، فمن له غيرهم وهم الأهل والأصدقاء الذين يقضي بينهم جلّ وقته، في هذا العالم الرقمي المترامي الأطراف. رحب مشرف الغرفة بالفكرة، وبدوره وضع أعلانا ليقرأه كل من يدخل للغرفة: تتشرف غرفة الحوار والفكر الرقمية الصوتية، بدعوتكم لحضور حفل الزفاف الرقمي الميمون الذي يتم من خلاله زفاف: الأستاذ الشاب الرقمي صاحبة العفاف الرقمية ساهر الليل شذا الشوق وذلك ضمن حفل فني رقمي ساهر في الساعة العاشرة من مساء هذا اليوم بحضور الأهل والأصدقاء الرقميين، وبتشريفكم يتم سرورنا، ودامت الأفراح في دياركم الرقمية. تقبل التهاني بإرسال الإيميلات إلى البريد الإلكتروني: saher_allil@ digital.com في العاشرة تماما، دخل العروسان بلون مختلف تم تزويدهما به من قبل مشرف الغرفة الصوتية، وعلى أنغام موسيقى الزفاف المعهودة … بدأت الحفلة بكلمات التهاني والمباركات والتشجيع من الأصدقاء والأهل الرقميين الأوفياء الذين حرصوا على حضور هذا الحفل رغم الكثير من مشاغلهم الرقمية المزدحمة، ثم بدأ الرقص والمغنى والإهداء، والقصائد , …. استمر الحفل حتى ساعة متأخرة من الليل، وبعدها استأذن العروسان بالانصراف، وأطفأ كل منهما حاسبه، وبدل ثياب العرس بملابس للنوم أنيقة كان قد حضرها لمثل هذه المناسبة ثم دلف كل واحد منهما إلى مخدعه، لمتابعة مراسم الزواج، فليس لهم سوى الحلم واحة وسريرا للقاء، لم تمض لحظات حتى غفى كل منهما وابتسامة أنيقة تعلو محياه. في صبيحة اليوم التالي، استفاق العروسان ظهرا، وقبل أن يغسل أي منهما وجهه، قام بتشغيل حاسبه، كأنهما تواعدا على نفس اللحظة للدخول، تبادلا تحيات الصباح ، وقبل الصباح، وراجعا معا تفاصيل حفلة الأمس الجميلة، وروى كل منهما للآخر أحلامه وانطباعاته عن الليلة الأولى للزواج. تتالت الأيام، وهما في سعادة غامرة، يذهب كل منهما إلى عمله صباحا، في البلد الذي يقيم فيه، ويبقى يجرفه الشوق والحنين، بانتظار حلول المساء، حيث اللقاء، والحب، والحياة. ساعات طويلة قضياها خلف شاشتي حاسبيهما، يتكلمان غزلا وعشقا وشوقا وحنانا، يكتبان أغاني الحب واللوعة والفراق، يستمعان إلى الأغاني التي تتحدث عن البعد والحب، ينظر كل منهما في عيني الآخر، راسما الحب والشوق والألفة على تقاسيم وجهه، لتنقلها الأسلاك للحاسب الآخر على الطرف الآخر من الكرة الأرضية. لم يبق رمزا متوفرا ولم يستخدماه للتعبير عن مشاعرهما، فمثلا، إن أراد أن يقبلها أرسل لها رمز الفم!، وإن أراد أن يقول لها احبك، يرسل رمز القلب الأحمر، أما رمز الشخص الذي يفتح ذراعيه، فكان للتعبير عن الشوق للقاء، ورمز الوردة ليقول لها ، كم أنت جميلة!!! وهناك رموز للغضب، والدهشة، والفرح ، والحزن، والجنون، والتفكير، والخيبة، و .. و .. و … و !!! استمرا على هذه الحال لمدة ستة أشهر، ثم ذات يوم ودون سابق إنذار فتح كل منهما بريده الإلكتروني، ليجد رسالة حملت نفس العنوان: ” أنتَ طالق ” … ” أنتِ طالق “. ضحكا كثيرا، يبدو أنهما متفقان حتى على الطلاق، الله ما أعظم هذا الحب الذي جمعهما! فتحت رسالته وقرأت: ” حبيبتي .. بعد ستة أشهر من السعادة، وبما أنه لم يعد هناك رمزا يستطيع أن يعبر عن مشاعري وحبي لك، وحيث أنني استخدمت كل الرموز المتوفرة ولأكثر من مرة، أرجو أن تقبلي انسحابي الهادئ هذا، ولأنني أحبك وأريد أن أحافظ على جذوة هذا الحب مشتعلة، ” أنتِ طالق ” . ساهر الليل فتح رسالتها وقرأ: ” حبيبي .. بعد ستة أشهر من السعادة، وبما أن رموزك التعبيرية لم تعد تحرك في إلا الملل والرتابة نتيجة التكرار.. حتى أنا مللت من نفسي وأنا أكرر نفس الرموز يوميا، لهذا كله، ولأنني أحبك، ولا أريد أن تصبح ذكريات الأيام الماضية الجميلة كابوسا يرعبنا، ” أنتَ طالق “. شذا الشوق أغلق كل منهما حاسبه، وابتسامة أنيقة تعلو محياه.