الديمقراطية المشنوقة
قناديل - وهيب ايوب - 30\12\2010
كان أحد فلاسفة الثورة الفرنسية يردّد: حدِّد مفاهيمك ومصطلحاتك قبل أن تتحدّث معي.
في ظل غياب ثقافة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان في المجتمعات العربيّة، فإن
تلك المفاهيم والمصطلحات تبقى مُلتَبسة على سامعها، نظراً لأن هذه المجتمعات لم تعش
يوماً في ظل حكم ديمقراطي، ولم يمارس المواطن فيها يوماً حقوقه، وهو لم يعرفها أصلاً.
ومن الطبيعي أن تغيب ثقافة الديمقراطية والحريّات، في ظل هيمنة أنظمة ديكتاتوريّة
استبداديّة، تقوم هي نفسها بالترويج وإشاعة ثقافة الاستبداد.
إنّ مفهوم الديمقراطية بحد ذاته وما ينشأ عنه من حقوق وواجبات لدى المواطنين، يحتاج
إلى تربية وثقافة ترعاها النُظم والقوانين، وليست مجرّد مفهوم أو مُصطلح فالت من
الهواء. وفي غياب تلك التربية والثقافة، تُمسي هذي المفاهيم مُلتبِسة وغير مفهومة،
على شعوبٍ لم تتعاطها يوماً من الأيام.
وما ألحظه أحياناً، حتى لدى الكثير من المثقفين، حول مسألة حريّة الرأي، أنّهم
يظنّون أنّ على الآخرين قبول آرائهم والأخذ بها وإلا فهم غير ديمقراطيين....! وهذا
خطأ في فهم الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير.
كان أحد فلاسفة الثورة الفرنسية، فولتير، يردّد مقولته الشهيرة: "قد اختلف معك
بالرأي، لكنّي على استعداد أن أضحّي بحياتي من أجل أن تقول رأيك". في ذات الحين كان
فولتير يخوض صِراعاً مريراً مع جان جاك روسو أحد أبرز فلاسفة عصره، حول الأفكار
الذي كان يطرحها في كتبه، مُناقضاً إيّاه في كثيرٍ من القضايا الهامّة.
وأن يقول الإنسان رأيه لا يعني بأن على الآخرين القبول به أو موافقته عليه. والتباس
المفاهيم لدى المجتمعات المتخلّفة ديمقراطيّاً، تدفع الأمور في غير سياقها الأصلي.
فترى النُخبَ فيها يقلبون المفاهيم رأساً على عقب، فيبذلون كل المستطاع من أجل
إسكات الآخر وإقصائه ومحاولة حرمانه من قول رأيه. فكيف إذاً بالسلطة الحاكِمة؟!
والحقيقة أن مفهوم ومصطلح الديمقراطية، الذي كان منشأه اليونان منذ القرن الخامس
قبل الميلاد، ويعني حكم الشعب، قد جرى عليه تحديثات وتطورات كثيرة خلال القرون
المتعاقِبة، وصولاً إلى الثورات التي ظهرت في أوروبا منذ منتصف القرن السابع عشر،
وحتى نهاية الثامن عشر، وصولاً إلى يومنا هذا. فقد وضع الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو
عبر كِتابٍ له في جزأين، أسماه "روح الشرائع"، وأبدع من خلاله فصل السلطات الثلاث،
التشريعية والتنفيذية والقضائية، منعاً للاستبداد ودرءاً للتسلّط. ذلك بعد أن درس
واستعرضَ التجارب البشريّة في الحكم والسلطة منذ اليونان والرومان والفراعنة والهند
والصين وغيرهم، حتى توصّل لذاك الاستنتاج في تأليف السلطات وفصلِها، وهذا معمولٌ به
حتى اليوم في الدول الديمقراطيّة.
ثمّ شهدنا في القرن العشرين وما تلاه نشوء سلطة، سُمّيت السلطة الرابعة، وهي حريّة
الصحافة والإعلام والنشر، وباتت اليوم أخطر السلطات على الإطلاق.
ناهيك عن المؤسّسات والجمعيات الغير حكومية والمجتمع المدني، وهؤلاء يحظون بتغطية
قانونية، وقد بات لهم دور هام في المجتمع والدولة، لكنهم في المجتمعات والدول
العربيّة، يكاد أن يكون لا وجود لهم أو لا دور مؤثِّر، بغياب ثقافة شعبيّة تدعمهم،
وسلطة حاكِمة ديكتاتوريّة تناهضهم وتشنّ عليهم حرباً من مُختلف الألوان والأشكال،
مُستخدِمة أدواتها القمعية من أجهزة الأمن والمخابرات والجيش، إضافة لإمساكها
بالسلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية في يدٍ واحِدة.
وحين تتعرّض تلك الأنظمة لبعض الضغوط الداخلية والخارجية، تقوم بإجراء انتخابات
شكلية، تُسيطر هي على كلِّ مُجرياتها، فتأتي النتائج على مقاسِها، واستمراراً لحالة
الاستبداد التي حرصت على إشاعة ثقافتها بين الناس، لدرجة أنّ الكثيرين ومنهم
مثقّفون يردّدون القول : "أننا شعوب لا تمشي إلاّ بالعصاي"، وأننا لا تصلح لنا
الديمقراطيّة....!
من هنا يتغيّر الشكل في بعض البلدان العربيّة "ديمقراطيّاً"، ليبقى في الجوهر
والمضمون على حاله استبداديّاً. ففي ظل غياب ثقافة حقيقية لدى الناس، كما لدى
النخبة، عن الديمقراطية والحريّة وحقوق الإنسان، تبقى الأمور مُستعصية على الحل، أو
السير للأمام.
ففي الانتخابات البرلمانية الأردنية الأخيرة، فازت العشائر وملأت مجلس النوّاب،
والانتخابات العراقيّة، تقاسمتها القبائل والطوائف والبطون، والمنقلبون على النظام
السابق بدعم دولي وأمريكي..
وتلك حالات لم تفرزها ثقافة ديمقراطية شعبية أو نخبويّة، بل أفرزتها سياسة الأمر
الواقع ونتائج الحرب على العراق. وأما الانتخابات المصرية الأخيرة فأتت على مقاس
السلطة الحاكمة، والحزب المُهيمن عمليّاً على كلِّ تلابيب الدولة والمجتمع. فالسلطة
الحاكمة هنا، هي من تُحدِّد أساليب اللعبة وأدواتها، فينتج عنها "استبداد ديمقراطيّ"،
على حدّ ما شرحه الكاتب المصري عصمت سيف الدولة قبل عقود في كتابه الشهير "الاستبداد
الديمقراطي".
حتى اليوم لا يعرف المواطن العربي ما هي حقوقه، ولم يعتَد على قول رأيه فيما يخصّ
حياته ومعيشته ومستقبله. فالجهل والفقر والبطالة والأميّة، ليست قدراً محتوماً،
لكنّها نتيجة سياسات الدولة القامِعة والفاسِدة المُستبدة، ولكن من يستطيع قلب تلك
المفاهيم والموازين، حين يكون المثقفون أنفسهم، من ذات النسيج والثقافة التي تحملها
السلطة.
لهذا تبقى الديمقراطية وثقافتها شكلة مُعلّقة على ياقة المثقف العربي، ومشنقة
مُدلاّة على باب السلطة وميزانها.