مجتمعات تقليديه على محور التغيير, بين الحرية والمدنية
الحديثة
رامي ايوب - 15\01\2011
ان اي حراك اجتماعي او يقظة ما, تقوم على الاندفاع, تكون باغلب احوالها فاقدة
للانضباط وبالتالي يكون مصيرهذا المجتمع مرٌشحاً للفشل على المدى البعيد, لذلك اي
تقدم او تغيير ما, يقوم به فرد او جماعة, ان كان هذا التغيير مقتصرا على نمط حياته
او حتى في فكره, يجب ان يكون مقرنا بالعقل اولا, وعندما نتكلم عن العقل نقصد الوعي
الكامل المطلوب لتشكيل تصور واسع وبعيد المدى بحيث يعكس مستقبل اي تغيير فكري جذري
نقدم علية باللحظة الحالية. هذا المنطق لا ينسحب فقط على افراد بصفتهم متلقين
لتعاليم مظاهر الحداثة او بالاحرى مبادىء المدنية الحديثة, انما للملقنين انفسهم
الذين يلقون بافكاراً ومبادىءً حداثية غالبتها ماخوذة عن الفكر الديكارتي المجرد,
تم صياغتها في ذهنيتهم الاندفاعية المتهافتة على التغيير, وحتى ان تلك المبادىء لم
تثبت نجاعتها في مجتمعات تتدعي التقدم او التحضر.
لقد قال ماكس بلانك (احد العلماء المؤسسين الاوائل للفيزياء الكمية) : "انا اعتبر
ان العقل هو الاصل, الاساس لكل شيء, والمادة هي مشتقة من العقل, لا نستطيع ان
نتجاهل ظاهرة العقل, فكل شيء نتكلم عنه كل شيء نعتبره موجود, يكون العقل شرط اساسي
لوجوده".
وقال عالم الفلك والراضيات ارثر ارنغتون :"ان مادة الكون, قوامه وجوهره, هو عادة
العقل, وقال ايضا : خلال ذلك العالم الفيزيائي العملاق, يجري محتوى خفي غير معروف,
لا بد من ان يكون عنصر العقل, تلك المادة التي يبدو واضحا تاثيرها المباشر عل
العالم, لكن لا يمكن اكتشافها بواسطة علم الفيزياء.
ان قمنا بنظرة سريعة للمجتمعات التقليدية, نلحظ ان غالبتها تحذو حذو النمط الغربي
وتجعل من النمط الغربي مسطرته الحضارية, والمشكلة هنا ان تلك التباعية نلحظها
بشقيها السلبي والايجابي معا بلا اي تصفية عاقلة.
ان اخذنا عينة بسيطة من جيل جديد ناشيء, في اي مجتمع تقليدي, كون ذلك الجيل متعطشا
لحب التغيير بهدف الانفتاح او التحضر, نلاحظ بان العمل على التغيير يبدا اولا
بالقشرة الخارجية, وغالبا يبقى عالقا بكنف تلك القشرة مكتفيا بعزها وغير سائل عن
مكامن جوهر التغيير او الحرية. في تلك الحالة لا يمكن لوم جيل ناشيء حديث التجربة
في مسلكهم او منهجهم انما المسؤولية تقع كاملة على النخب الداعية, مثقفين ومربين,
في تلقينهم لهذا النوع من المناهج النمطية السريعة والسهلة والتي تبدو اكثر شبها
بقنبلة موقوتة في قلب مجتمع يلفه هدوئاً نسبياً.
فعلى الدعاة والمدعوين معا ان يعو بان الحرية تبدا من العقل (الوعي) اولا, وكما قال
كما جنبلاط: " الحرية هي الوعي, لا تكون حرية ولا تقدم بدون وعي, والحرية اثمن شيء
في الوجود التام, اذا اقترنت في ممارستها وفي ابداعها, بشرعة العقل وقيم استشفافه".
مثال للتوضيح : لو قمنا بتشبيه افراد المجتمعات التقليدية بالسجناء داخل سور عالي
جدا يحوي بوابة واحدة للخروج, وقلنا ان تلك البوابة هي دعوة النخب للتغيير, وقمنا
بفتح البوابة بهدف تحرير السجناء, فاول خطوة سنلحضها على السجناء هي الاندفاع نحو
بوابة الحرية, دون التفكير او الادراك او حتى اجراء حسابات او تصورات بسيطة لما
ينتظرهم خارج تلك البوابة مباشرة, فقد تكون الحرية المنشودة حقا, وقد تكون حفرة
عميقة او شرخ يهوي فيه جميع السجناء بسبب اندفاعهم وقلة انضباطهم وبالتالي محوهم عن
بكرة ابيهم.
كما ذكر ببداية المقال , بان اي دعوة لاي تغيير يجب ان يكون مقرننا بالوعي, بحيث
تقوم على تشكيل نظرة واسعة وبعيدة المدى تمكننا من رؤية مستقبل اي خطوة نقدم عليها
بنفس اللحظة. بخلاف ذلك, نسمع اليوم انبياء ورسل متنورين منادين لدعوة المدنية
الحديثة, بحسب وجهة نظر البعض, ان نمط المدنية الحديثة تعطي حلولا رسمية لاشكالات
اجتماعية, وتكون تلك الحلول بعيدة عن الفساد التقليدي بجيمع اشكاله- لا لغط في ذلك
- ولكن بدون الاخذ بعين الاعتبار قلة الوعي الاجتماعي او بالاحرى مقياس الواعين,
وعلى غرار ذلك, الانفلاتات التي تقضي على جميع اشكال الاخلاق والروحانيات وما تحويه
من متغيرات عديدة تلعب دورا مهما بالحفاظ على تماسك المجتمع او الحضارة وبقائهما ,
وحتى دون دراسة تجارب مسبقة بشكل شامل, او بدون استخلاص العبر من تجارب سابقة قامت
على تجاهر بصنع دواء لداء صنعوه بايديهم, وكانهم بهذا (الداعين للمدنية الحديثة)
يبدون ككثلة من المجانين يلعبون بعود تقاب في مخزن ممتليء بالمواد الملتهبة, بحيث
تخضعنا تلك التجارب العشوائية الغير واعية الى تيارات نصنعها, تخرج عن سيطرتنا,
فتعود وتثار منا,فتجعلنا على شاكلتها.
قال "ايفان روبنسكي", وهو يعني بفلسفة الحضارة, وما تنتابها من نمو ومن اشراف على
التمام, وثم من انحدار فانحطاط فزوال, : " في ايامنا الحاضرة, اذا بلغت المدنية
نجاحات مذهلة, فاننا نلاحظ الوقائع التي ترافقها, منها انحطاط كبير للصحة الجسدية
والروحية والمعنوية تصيب الاكثرية الساحقة من البشر. وجميع المباديء والشرائع
المناقبية اصبحت منسية, والعامل الاساسي للنشاط هو السعي وراء بحبوحة مادية مشروطة".
اذ قمنا بتطبيق هذا الكلام على اي مجتمع في طور التمدن, فلا نجد اي جديد او ما يصعق
البال والخاطر ان كان على الصعيد الفردي او الاجتماعي او حتى على المستوى الحضاري
لشعب ما. فمن السهل تحسس هذا الكلام من خلال الوقائع اليومية المسموعة والمرئية
وحتى من خلال تجاربنا الخاصة اليوم يومية ضمن اطرنا القريبة, فلكل خطوة نحتسبها
حضارية لا بد من ضريبة جزائية باهضة الثمن, فلا اقتصاد متقدم بدون فوارق طبقية او
صراعات سياسية او حروب تدميرية ومطامع تمهد الطريق لظهور الشللية المنحرفة, سلوكا
وخلقا, تتغذى في مسلكها على الحرية (على حد استيعابها) او القوة والنفوذ بحيث
يستحيل تدخل الغير في مسلكها او في الحد من تقدمها وانحرافها, او يستحيل وجود صناعة
متقدمة بدون خلل في مجرى الطبيعة وصحة الكائن البشري, ولا ننسى طبعا النزعة
المتفشية للعدوان والعنف المنتشر, وللجريمة المتكاثرة, وللنهم الجنسي المتصاعد.
وهذه الضريبة الباهضة التي تبدو على هيئة انحطاط, نشهدها في البلدان التي تفتخر
بحضاراتها, وبثروتها, وبنمو المعرفة فيها والتربية, وبالتقدم العلمي والانجازات
التقنية وسوف تلحقها كل تلك المجتمعات , كما قال كونراد لورنز "الانسان بالنهاية هو
حيوان ولكنه عاقل", فلو فقد وعيه او بالاحرى عقله فما الذي سيفرقه عن اي كائن مفترس.
ان كل خطوات التغيير تقوم على محور يصل بين قطبين, التقليدي والحداثي, وبين هاذين
القطبين الكثير من المحطات والمتغيرات التي تحدث التغييرات على نمط حياة الانسان,
وكل خطوة على هذا المحور, يمكن ان تكون لكلا الاتجاهين, الى الامام او الوراء, فبعد
كل خطوة تقدمية فاشلة, يمكن ان نعالجها بخطوة نحو الوراء ناجحة من اجل استخلاص
العبر من الخطا, فالتصحيح, ومن ثم معاودة السير الى الامام بخطى اكثر نجاحة واكثر
ثباتا وادراكا للواقع وللمستقبل القريب وحتى البعيد.
المصدر:
نكون او لا نكون, ايفان روبنسكي (تعريب كمال جنبلاط).