احتراقُ البو عزيزي يُنبِتُ الياسمين
قناديل - وهيب أيوب - 17\01\2011
رويــدكَ لا يخدعنّكَ الربيعُ | |
وصحو الفضاء وضوء الصباح | |
ففي الأُفقِ الرحبِ هولُ الظلامِ | |
وقصفُ الرعودِ وعصفُ الرياح | |
حذاري فتحت الرماد اللهيب | |
ومن يزرع الشوك يجني الجراح | |
أبو القاسم الشابّي |
يقولون، أن تُضيء شمعة خيرٌ
مِن أن تلعَن الظُلمة ألف مرّة، فكيف لو أضرمتَ النار في جسدِكَ وجعلته كتلة لهب
تُضيء درب الملايين من شعبِكَ وأمّتكَ، وتُلهِب صدورهم، فيمسِكون جسدكَ شُعلةً
ليسيروا به خارجين من النفق نحو الأفُق البعيد والفضاء الرحب...؟
لن تمرّ فعلة محمد البو عزيزي هذي دون أن تُرقّم في التاريخ العربي الحديث، كأهمّ
حدثٍ في مسيرة النضال ضد الظلم والاستبداد في مطلع العقد الثاني من الألفيّة
الثانية.
هذا استشهادٌ غير مسبوق، ينال شرفه بائع الخضار والفواكه البو عزيزي، الخرّيج
الجامعي العاطل عن العمل، كما الآلاف من زملائه ومن فقراء الشعب التونسي.
هكذا تصِل قمّة الاحتجاج إلى ذروتها القصوى، فيُشعل العديد من شبّان تونس النار في
أجسادِهم، مُقتدين بشعلة "الاولمبياد" التي أضرمها البو عزيزي. فأتت على زين
العابدين، ولكن يبقى مَن زيّن له.
لقد سكَبَ البو عزيزي قطرات البنزين على جسدِه،ِ ففاضت كؤوس التونسيين المُترعة
بالقهر والذلّ والهوان والفقر، وطافت البلاد تنشد الخلاص والانعتاق من نظامٍ أشبعهم
قمعاً، فأشبعوه احتجاجاً على مدى شهرٍ، فيما أسموه "ثورة الياسمين" فشُقَّ صدرهُ
وغادر وكرَهُ تحت جنح الظلام.
لو قارنتم، بين مشهد الرئيس التونسي ما قبل الاشتعال وما بعده، لعرفتم أن تلك
الأصنام الشمعية التي تتنافخ غطرسة، وعنفواناً كاذِباً وشرفاً كاذِباً وثقة كاذِبة
ورجولة كاذِبة، وإنجازات كاذِبة، ووعوداً كاذِبة، ستذوب إذا ما اقترب اللهيب من
أقدامها، وتمسي شخوصِها مُعفّرة في التراب بعد أن كانت تتظاهر بمناطحة عنان السماء...؟
لا شكّ أن الأنظمة العربيّة جميعها، ما زالت ترتعد فرائصها على وقع أقدام
التّوانِسة، والحكّام يتوجسون من مصيرٍ مُشابه لزميلهم في الصنعة ورفيقهم في
الاستبداد.
إذاً، مَن يلتقط الشعلة، ومَن يتعلّم الدرس..؟
إنّه ليس بكثيرٍ على الإطلاق شهرٌ واحِدٌ من الاحتجاج والتظاهرات، في سبيل الإطاحة
بعقودٍ، بل بقرونٍ من الحيف والظلم والاستبداد...
ليس بكثيرٍ مئة شهيد ومئات الجرحى، في سبيل الخروج من ذاك النفق المُظلم الذي
وضعتنا فيه تلك الأنظمة الخائنة لشعوبنا وقضايانا...
لا، ليس بكثيرٍ أبداً إنفاق شهرٍ من الأيام، بل شهور، من أجل العيش بكرامة إنسانيّة
بعد أن سلبنا إيّاها أولئك الطُغاة الفاسدون والعصابات التي من حولهم، الذين يعيشون
في القصور ويرمون لنا بالقشور....
ليس كثيراً على شعوبنا أن تحيا كباقي الشعوب، أن تتنفّس الهواء والحريّة، أن تأكل
وتشرب وتتعلّم وتتداوى، وتشعر بوجودها الإنساني...
وليس قليلاً ما أبدعه البو عزيزي، وما أكمله الشعب التونسي، فاستكمل صعوده حتى قطف
الرأس.
هذي التماثيل الشمعيّة، لا ترهبوها، فقط قرّبوا النار منها. فـ "مَن خَشِيَ مِن
بَشَرٍ مِثله، سُلّطَ عليه"
وهؤلاء المستبدّون الشمعيون، تعوّدوا ألاّ يخشونكم فتسلّطوا عليكم، فلا تخشوهم،
يُذابون.
ستسمعون وتشاهدون على الفضائيات العربيّة، وستقرؤون كتّاب مقالات على الِنت في
الأيام القادِمة، والعديد من المثقفين والسياسيين العرب، ممن يُشيد ويزغرِد ويهلّل
لِما جرى في تونس، لكنّهم لن يأتوا على ذِكرِ أنظمتهم وحكّامهم المُستبدّين، ليس
بأقل من بن علي، فاحذروا خداع هؤلاء المُتسلقين على جِدار الياسمين...!
كثيرون سيهلّلون لسقوط الرئيس التونسي، في الوقت الذي يصمتون عن استبداد وفساد
أنظمتهم وحكّامهم وكأن على رؤوسهم الطير، لا بل إن بعضهم يسوّقون لهم.
فلكلٍّ من هؤلاء مُستبدٌّ وعصابة أمنٍ وطُغاة فاسدون، وأوضاع تونس قد تكون أقلّها
ضراوةً.
فليتحدّث كُلٌ مِنّا عمّا هو في بلادهِ مُقتفياً آثار التونسيين، لا مُكتفياً بما
هم فعلوه..؟
.
فكلّنا في الهمِّ والاستبداد سواء، وعلى قول مظفّر النوّاب
"فهذا الوطن المُمتدُ، من البحرِ إلى البحرِ، سجونٌ مُتلاصقةٌ، سجّانٌ يُمسِكُ
سجّان"
إذاً، فلتبدأ معركة الاستقلال الحقيقي، بلاءّاتٍ ثلاث: لا استبداد، لا توريث، لا
فساد
ما زال من المبكِر الحديث عن مدى ما ستنجزه "ثورة الياسمين"، وهل ستكون قادرة على
إرساء اللبنة الأولى في العالم العربي ببناء دولة ديمقراطيّة حقيقيّة، واستقلالٍ
حقيقيّ، وهل ستتلقّف الشعوب العربيّة الدرس التونسي، أم أنّها ستنتظر فرج السماء..؟!
"وما نيلُ المطالبِ بالتمني - أو التغنّي - ولكن تؤخذُ الدنيا غِلابا".
سننتظر ونرى، أين ينبت الياسمين، وأين يُداس ...؟