معا لجات فكرية ... 1
فصل الدين عن الدولة ... بين الوقائع والواقعية
قضت الثورة الفرنسية على الحكم البابوي في العام 1789,
بعد ما يقارب خمسة عشر قرنا
من سلطة الكنيسة التي سادت في أوربا , بعد انتشار المسيحية فيها . وكانت
الثورة الاجتماعية تلك , نتيجة موضوعية للثورة الصناعية والزراعية والثقافية , بما
اصطلح عليه عصر النهضة .
اعتمدت الثورة الفرنسية على مبادئ الحرية والمساواة والأخوة . وقد ساهم مفكري
وفلاسفة عصر التنوير – النهضة , بمد المجتمع ورجال الساسة المتنورين بأفكارهم
التنويرية ومن أهمها : العدالة الاجتماعية بين فئات وطبقات المجتمع, حرية الفرد
والتجمعات السياسية في التفكير والعمل , حقوق المواطن في إطار الدولة , فصل الدين
عن الدولة وإلغاء سلطة رجال الدين – الكنيسة – التي تمد الطبقة الارستقراطية
الحاكمة بأفكارها التي تحفظ لهم البقاء في السلطة والاستئثار بموارد الدولة المادية
, والتحكم بالشعب سلوكه وتفكيره . وقد رافق هذا الحكم ما رافقه من عوامل ونتائج ,
كانت السبب في اندلاع الثورة التي امتدت على ثلاثة مراحل :
الأولى : مرحلة الملكية الدستورية , تم فيها تأسيس الجمعية الوطنية وإلغاء الحقوق
الفيدرالية وإصدار بيان حقوق الإنسان ووضع الدستور.
الثانية : بداية الحكم الجمهوري وتصاعد نشاط التيار الثوري , تخلله إعدام الملك
وقيام النظام الجمهوري.
الثالثة : شهدت تراجع التيار الثوري وعودة البرجوازية إلى الحكم , تبعه الانقلاب
العسكري الذي قام به نابليون . فوضع حدا للثورة وأقام النظام الديكتاتوري التوسعي.
أن ما يعنينا هنا , في هذا المقال ليس تاريخ الثورة الفرنسية , انما نتائجها التي
كانت تستند – فيما استندت إليه – إلى مبدأ فصل الدين عن الدولة . لنصل بالتحليل إلى
الغاية المنشودة من هذا المقال.
لم يكن فصل الدين عن الدولة امراً مستغربا في الظروف التي سبقت الثورة وأحاطت بها ,
ولم تكن غاية الثورة , فصل الدين عن الدولة , فيما أعلنت عن أهدافها الأخرى. لتدخل
فرنسا بعد الثورة , وأيضا غالبية دول أوربا في مرحلة التوسع الجغرافي – الإمبراطوري
, من احتلال بلدان العالم والسيطرة عليها , بل والقضاء على أهليها من السكان
الأصليين . كما حدث في استراليا وأميركا . إضافة إلى استعباد البشر واستجرارهم من
بلدانهم ومواطنهم إلى أعمال السخرة في الدول الصناعية والزراعية الناشئة حديثا. فإن
كانت نتيجة للثورة الفرنسية, فاتحة عصر الدول الحديثة , أم تلك التي نشأت قبلها,
واتخذت منها مساراتها وآفاقها, في احتلال العالم وقهر الشعوب ونهب خيراته , فإن فصل
الدين عن الدولة لم يجعل منها نظاماً مختلفاً عن سابقاتها من الأنظمة الدينية التي
كانت سائدة في أوربا عموماً .
لقد خانت الثورة الفرنسية مبادئها . هذا ما اجمع عليه الكثيرون من المفكرين
الأوربيين تحديدا , في معرض تحليلهم للثورة ونتائجها بعد مائتي عام من قيامها .
وأمثال هؤلاء : "روبرت دارنتون" أستاذ تاريخ أوروبا الحديث في جامعة "برنستون "
الذي قال :وإذا كانت الثورة قد أعلنت حقوق الإنسان والمواطن فإنها لم تلبث أن أهدرت
هذه الحقوق بما ارتكبته من جرائم ومذابح وموجات إرهاب اجتاحت فرنسا كلها بعد 5
سنوات فقط من إعلان تلك الحقوق لدرجة أن بعض المؤرخين البريطانيين مثل "ألفريد
كوبان" كان يصف هذه الإعلانات (حقوق الإنسان والمواطن) بأنها مجرد أسطورة.
المؤرخ الفرنسي "بيير كارون", الذي كتب كتابًا عن المذابح التي حدثت في السجون
الباريسية إبان عهد الثورة , يقول عن هذه المذابح:" إن هذه المذابح كان لها طابع (شعائري)
جارف، وقد بدأت بالهجوم على بعض السجون بزعم القضاء على بعض المؤامرات التي كانت
تدبر فيها للإطاحة بالثورة، وأقام "الدهماء" من أنفسهم محكمين وقضاة ومحلفين في
فناء هذه السجون، حيث كان السجناء يقدمون للمحاكمة واحدًا بعد الآخر فتوجه إليهم
التهم ويحكم لهم أو عليهم ليس تبعًا للأدلة والشواهد؛ وإنما تبعًا لمظهرهم العام
وسلوكهم وشخصيتهم بل وتكوينهم الجسدي. كما كان أي تردد أو أي اضطراب يظهر على الشخص
يعد دليلاً للإدانة وعلى ثبوت التهمة فيحكم عليه بالإعدام، وكان الذي يتولى
المحاكمة وإصدار الحكم شخصًا عاديًا، كما كانت أحكامه تقابل بالتصفيق والصياح من
الجماهير الذين تجمعوا من الشوارع المحيطة وأصبحوا بمثابة محلفين، وكان الشخص الذي
يحكم ببراءته يؤخذ بالأحضان والتهنئة والقبلات ويطوفون به الشوارع، بينما كان الشخص
الذي يحكم عليه بالإدانة يتم إعدامه طعنًا بالخناجر والسيوف وضربه بالهراوات
الثقيلة ثم تنزع عنه ملابسه ويلقى بجسده فوق كومة من أجساد الذين سبقوه".
هذا ما يتعلق بالثورة نفسها ومجرياتها , في داخل المجتمع الفرنسي , ومثيله الأوربي
. فما الفرق هنا بين ظلم الكنيسة وظلم الحكم الجمهوري ؟ !! فقد تعددت الأدوات
والموت, والظلم واحدٌ.
ومن ضمن ما آلت إليه المجتمعات والدول الأوربية بعصر الاستعمار المباشر , هو نسخ
التجربة الداخلية في ظلم الفئات "الدنيا" من المجتمع , على شعوب بأكملها , بقتلها
وتشريدها ونهب خيراته وسوق قويي البنية منهم إلى العمل عبيدا في مزارعهم ومصانعهم .
وكان من ضمنها أيضا تدمير حضارات وثقافات وتطورات ذاتية لشعوب المناطق . فقد قضى
نابليون نفسه , على الثورة الصناعية والزراعية في مصر بزمن محمد علي . وقضي على
التجارة والملاحة البحرية في شرق المتوسط (سوريا ولبنان وفلسطين). فبماذا تتميز
السياسات الخارجية للدول الديمقراطية المبنية على مبادئ الثورة الفرنسية , عن
الحروب الصليبية مثلا؟!!!
هذا بالإضافة إلى الحروب التدميرية التي حصلت في أوربا ( العالمية الأولى والثانية)
وخارج أوربا وأميركا , التي شنتها وتشنها الامبريالية العالمية على شعوب ودول
العالم , في ما يسمى الاستعمار الجديد – الاقتصادي . وما رافقه من استهداف الأشخاص
والجماعات والأحزاب السياسية المعارضة, بالتصفية والملاحقة وافتعال الصراعات
الداخلية التدميرية التي تهدر مقدرات تلك المجتمعات البشرية والاقتصادية
والاجتماعية.
وعلى المقلب الآخر من الأنظمة العالمية السائدة , غني عن التفصيل ما فعلته الأنظمة
الاشتراكية إزاء شعوبها , من قمع وقتل وتهجير للعقول والناشطين السياسيين . وهي
بدورها كانت بطبيعتها الأيديولوجية , لم تفصل الدين عن الدولة فحسب, بل فصلت الدين
عن المجتمع وعن الفرد . وكان ذلك احد أسباب زوالها.
وفي العالم العربي , لا تزال الأنظمة العربية الملتحفة برداء الدين , متخلفة عن
مجاراة دول الاستكبار العالمية , في قمع الشعوب , فاقتصر قمعها للحريات والأفراد
والنشاطات السياسية على الأفراد والجماعات . حتى بتنا مجازا نتفاخر بهذا المستوى
أمام باقي الدول للتفكه والسخرية .
إذاً يُفاد مما تقدم , بأن علة الأنظمة السياسية القمعية ليست مرتبطة بالدين على
وجه الخصوص , مع عدم نفي ما تحمله الطبيعة الدينية من توجهات سياسية شمولية قائمة
على جملة من المنظومات الأخلاقية والقيمية والمبدئية التي تتعارض مع مبدأ التطور
الطبيعي للمجتمعات وللأفكار والأيديولوجيات . فالعلة تكمن في طبيعة الأيديولوجيات
السياسية ذاتها , التي تنزع نحو الذاتية والنرجسية وادعاء الكمال , رغم ما يقولون
عن أنفسهم , من إمكانية التطور . لكن تبقى لهذه الطبيعة الفكرية الذاتية نزعتها
العدوانية ضد معارضيها , رغم الدساتير الداخلية لكل دولة , والتي تضمن حق الأفراد
والجماعات , بحرية الفكر والنشاط السياسي والثقافي .
هي الطبيعة البشرية إذاً , على اختلاف مشاربها الفكرية , تنزع نحو الصراع الداخلي
والخارجي . ولا يكمن الحل هنا حصرا , بفصل الدين عن الدولة . وبناءً على ما تقدم
يجوز فصل الأيديولوجيات عن الدولة لأنها تحمل السمات السلبية ذاتها في دفاعها عن
نفسها ونفيها للآخر . ومهمة الدولة هنا تكمن في محاصرة حدة هذه الصراعات وليس إقصاء
احدها أو بعضها . وتكمن في التعامل مع جميعها بمعادلة واحدة . تعطي لكل حقه في
النشاط الاجتماعي – السياسي , والفكري – الثقافي .
وفي إطار المعالجة التحليلية لمقولة " فصل الدين عن الدولة " , التي باتت شعارا
سياسيا براقا , تخلو من مضمونها الواقعي . بات من الجائز أن نتهم من يقول بها بأنه
ذو نزعة عدوانية ضد الآخر , لأنه وان كان محايدا أو غير منحازٍ- قولاً- إلا انه
قمعيا بكل معنى الكلمة – عملا وفكراً -.
وفي إطار المعالجة الفكرية للمقولة ذاتها , فانه لا يستوي موازاة " الدين " ب "
الدولة ". فمفهوم الدين يختلف جذريا عن مفهوم الدولة من حيث المعنى والمضمون .
فالدين أيديولوجيا , ونمط حياة أخلاقي وقيمي , ومنظومة من المبادئ التي تنضم سلوك
الفرد والجماعات والمجتمعات. والدين شكل من أشكال الثقافة " الشاملة " للكون
والمجتمع . وهكذا هي الأيديولوجيات الأخرى . أما الدولة في جهاز سياسي وظيفته تنظيم
علاقة الأفراد والجماعات السياسية بعضها مع بعض , واحتواء مختلف الأيديولوجيات
السائدة , والثقافات المنتشرة , في داخلها . فالدولة شكل وجود التجمعات البشرية .
والأيديولوجيات –بما فيها الدين – هو مضمون وجود هذه التجمعات . فكيف يستوي الحديث
عن فصل الشكل عن المضمون ؟ وإذا جاز القول بفصل الدين عن الدولة , يجوز معه تعميم
الأمر , بفصل الأيديولوجيات جميعها عن الدولة .
ولأن الأمران غير جائزان , فانه يجوز القول : تنظيم العلاقة بين الأيديولوجيات
وأحزابها السياسية في إطار الدولة . وهذا ما تنتظره الشعوب من نتائج في الثورة
الاجتماعية التي يسير العالم نحوها .