بوعزيزي محمد المهموم<br>داوود الجولاني - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


بوعزيزي محمد المهموم
داوود الجولاني - 09\02\2011
أضرم بوعزيزي في جسده النار، وبقيت عربة الخضار سليمة، هو انكوى، انشوى، تألم، بكى، لكن دموعه نشفت من حر النار. منهم من قال محمد لم يمت، روحه تقمصت مليون ومليون جسد، من القاهرة حتى إشعار آخر. بوعزيزي التونسي أطلق سراح يونس وبقية الأمراء، قتل الزناتي خليفة، وأعطى لأبي زيد الهلالي عربته ليبيع فيها همومه في شوارع الجولان.
هكذا أفاق محمد المهموم من نومه يوم الجمعة، بعد عودته مساء الخميس من مستوطنات إسرائيل منهكا، مهدودا من العمل فوق الطوابق العليا لفندق نجومه خمس. الرقم خمسه يحبه ولكنه يقلقه، ويحيره أكثر من تعب وغياب الأسبوع عن أطفاله الخمسة وعن وزوجته. هو حاول.. وحاول أن يكون كركدنا تحت الغطاء، مثل ملك يحمل في رأسه قرنين، ولكنه نام، ثم أفاق وقال لنفسه: لأتجول قليلا وأعرف أخبار بلدي...
وضع في جيب بنطاله "نفطة"، أو علبة ثقاب، وحمل على كتفه حقيبة فيها زجاجة مملوءة بسائل يشبه الماء، ولم ينس قبعة الشعراء، فدس رأسه الصغير فيها حتى بدا وهو القصير ومنتفخ البطن مثل "لقطينة"، أو يقطينة .
دار ومشى به حذاؤه، فالتقى والصبح صباح الخير بصيرفي دولارات وشيكات، حاول الابتعاد عنه، لكن الصيرفي قبل وجنتيه قائلا له: تعال إلي آخر الشهر فدينك زاد ويزداد.
مشى جارّاً حذاءه، وكأنه عربة لبيع الكتب القديمة، فالتقى بمخضرم في الوطنية والسياسة، الذي بادره الكلام عن بعد من زاوية الشارع المقابل: "محمد غداً 14.. شباط الحضور ضروري... ثمة وفد قادم من خلف الأسلاك".
ابتسم بوعزيزي المهموم، وتحسس زجاجته التي تشبه الماء وأكمل جولته...
ثم قبالة دوار الصخور المنحوتة ببراعة من عرق النحاتين، خاطبه إنسان كان يعبر الطريق: "بوعزيزي يا محمد، ما بك؟ يبدو التعب عليك وأنت شابا، مازلت بعد...". فرد محمد المهموم، والبسمة كادت أن ترتسم في نصف حلقه: "أشكو من كثرة دور المسارح، فلم يبقَ لي بيت لتصلوا فيه يوم جنازتي".

بوعزيزي الجولاني قال: إن استمريت هكذا سيضيع يومي، فمشى فيه حذاؤه نحو سهل التفاح، فوجد التاجر يجلس فوق شجرة، هزة ريح أو ضحكة طفل كفيلة أن تسقطه عنها، عيونه مثل ضفدعة منتفخة، يسبّح بمسبحة كان قد بللها بالنبيذ ويقهقه: بالكاد تفاحكم يرد تكاليفه لكنني من أجلكم سأبيعه".

بوعزيزي المهموم يبتسم يشكر الله وينصرف.

يقترب من منزل يقع تحت تلة يقبع فيها جنود يهود، من التلة جرف الشتاء الغزير ألغاماً صغيرة تشبه الكرة، ولأن محمد بوعزيزي المهموم يراقب فرق الجولان الرياضية، ومنحاز يوما لفريق الأمل ويوما لفريق الطليعة، حسب اللغم كرة، فراح "يشوط" اللغم نحو التلة،.. الكرة تعود إليه متدحرجة، فيعاود قذفها بحذائه نحو التلة، حتى مر عضو من الإتحاد الرياضي، أعطاه كرتا أحمر، فتوقف محمد عن اللعب.

بوعزيزي يستمر في المشي، فيقابل امرأة مغموسة في العطر والورد، ولون السماء، عيونها تتنقل بين الناس مثل الفراشة، فستانها يشبه هالة من النور شفافة، غمزته بغمازة الخد، أو هكذا تهيأ له، فانتفضت فيه عروق مثل عصفور مر من تحت سحابة ثلج، فهرول في مشيته مختالا وهو يطلق من شفتيه صفيرا وكلمات لشاعر أحبه:
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة".

وأخيراً تأتيه اللحظة المواتية، فيلتقي بإعلامي بارز له في النت صولات وجولات، فيسأله:
"محمد ماذا تريد؟".
ينظر بوعزيزي في الكاميرا، يشعر بظمأ للكلام، فيخرج من حقيبته زجاجة أطيب من الماء، يرشها فوق شفتيه، ويقدح زناد عود الثقاب.. ينظر في الكاميرا الموجهة إليه ويقول: "سأشعل سيجارة".