العنزة الشامية
داوود الجولاني - 12\02\2011
امرأة قوامها رشيق، جميلة مثل كل امرأة جولانية، تضع فوق رأسها نقابا أبيض لا يغطي
كل شعرها، فتظهر جدائلها السود وكأنها تعرجات ممر جبلي بني اللون، يزينه ثلج خفيف
نزل في شهر شباط، تتمشى في غرفة صغيرة تطل نافذتها الوحيدة نحو البحر.
تتمشى مثل عنزة حائرة غاضبة، تبحث عن طريقها في مرعى ملؤه الضباب ثم تقف قبالة
النافذة، تنظر إلى البحر الهائج.. وحينا إلى السماء.
المطر الذي يقرع الزجاج يحجب عنها الرؤية، فتلتصق أكثر بزجاج النافذة، فتحس أن
ثدييها الكبيران يشعران ببرد، فتزداد التصاقا، وبيدها اليمنى تمسح البخار عن الزجاج
الذي يأبى الانصراف من فوق شفتيها، وبيدها
اليسرى تمنع نقابها من الانزلاق عن شعرها.
فترى من جملة ما ترى قوارب الصيادين ترسو في المرسى، ورجالا يقفزون ويركضون إلى
بيوتهم والمطر يلاحقهم، كما الصياد يلاحق طريدة، وترى النوارس كيف تتوه في العاصفة،
تبحث عن أسطح بيوت قديمة، تمتد على طول الشاطئ، كان في السابق يسكنها عرب حيفا أما
الآن فيقطنها يهود.
سقوط زخة مطر مفاجئة جعلتها تبتعد عن النافذة وتجلس قرب الشاب الممدد في السرير.
وهي تحس أنها لأول مرة تكره المطر والعاصفة.
دخلت الغرفة امرأة ترتدي ثوبا أبيض، تحمل بيديها صينية وقد وضعت عليها تفاحة وصحنا
فيه أرز مسلوق وحبتا بطاطس.
- كلي بعض الطعام فأنت منذ يومين لم تأكلي.
قالت كلماتها بلطف وبلهجة مغربية ثم خرجت من الغرفة.
نظرت إلى الطعام دون شهية، ثم مسحت بيديها شعر الشاب وقبلته في جبينه، وهي تمسح
دمعتين انحدرتا من مقلتيها: وصلت بكلمات وجمل لملمتها من ذاكرتها ومما كانت تسمع من
النساء المتدينات القارئات كتب الصمت المذهّب حبره بالحكمة.
يا الله. يارب السموات والأرض وخالقهما في جملة التكوين بأسرع من طرفة عين، يا
أزليا وحاضرا في الأمكنة، يا عالما بخبايا الصدور ، إني أبتهل وأتوسل إليك، أن تقبل
رجائي وتخفف من حزني الذي يكوي صدري مثل ساق شجرة جاف أصابه شهب فاشتعل. فأنا لم
أخطئ في حقك أبدا، وأواظب في عبادتك ليلة الجمعة وليلة الاثنين، وكل ما أبتغيه يا
سيدي أن يعيش ابني رغم ما أصابه، فلا راد ولا اعتراض فيما شئت، فاشفع لي وتقبل طلبي،
فنحن مجرد رعاة ماعز بسطاء لا غير. فلا حكمة في رؤوسنا، ولا علم لنا لندرك صواب
محنتنا. فلا تختبر صبرنا وإيماننا فقد نسقط في الاختبار. فامتحن غيرنا ودع ابني
يفيق من غيبوبته، فأنا يا سيد الكون وخالقه أضع إيماني بك في كفة وحياة ابني في كفة
موازية".
قالت جملتها الأخيرة وقد سكنها حنق وغضب جارفان، فوجهت كلامها نحو ابنها، وهي
مازالت تمسح بيديها شعره، وبلوم أم مفجوعة قالت:
"لن أتوسل إلا إليك، فحياتي بين يديك هي حياتك، فقاوم نعاسك، وارفع رمشك قليلاً،
لعل نظرة منك تسمعني. فها نحن قد جئنا إلى البحر أخيراً.. فانهض يا مهجتي من نومك،
وشاهد معي كيف المطر ينزل متراقصا فوف الموج.. ألا تحب الرقص؟ وأنت الذي حكيت لي
كيف كنت تقفز فوق الصخور، تلاحق عنزتك الشامية النادرة، الأصيلة، ذات اللون "الدبسى"،
صاحبة العنق الطويلة والعينين الكبيرتي البياض والبؤبؤ الكحلي، وكيف جرحت الصخور
ضرعي العنزة الكبيرتين الممتلئتين "باللباء".. فانهض من أجلي. فقريبا ستنجب عنزتك
جديا. ألا تريد أن تراه؟
انهض كي أسالك لماذا كنت تتمدد تحت عنزتك وتحلب من ثدييها "اللباء" وتجمعه في كفيك..
ومن هي الطفلة التي كنت تطعمها من يديك. ا نهض من نومك هذا، فربما الطفلة تعتني
بالجدي المولود من بطن عنزتك، وربما يرقصان الآن معا فوق عشب البرية".
لم تكد تنهي كلامها حتى قاطعها صوت زخة مطر، مصحوبة برعد، فلم تنتبه لصوت الممرضة
المغربية وهي تقول لها زوجك ينتظرك على الهاتف. فخرجت مسرعة وهي تلتفت إلى النافذة
المطلة على البحر.
سألها ما حال الصبي، هل عرف ما أصابه؟
- لم يفق من غيبوبته بعد، ولكن الطبيب قال إنه سيعيش، ولكن، متى ستأتي إلى هنا؟
"لا أعرف، فقد اجتمع الناس في الخلوة، وأعلنوا عن إضراب مفتوح، لذلك الجنود يحاصرون
القرى ويمنعوننا من الخروج من البيوت، حتى أن الجنود احتلوا أسطح المنازل، وانتشروا
في الطرقات بخيولهم، وهم يتوزعون في الحارات ويرمون الجنسية تحت أعتاب الأبواب،
وكأنهم يريدون إنجاز مهة تورطوا بها... ولكن الناس جمعت الجنسيات وكومتها فوق بعض
وأحرقتها، مما أثار جنون الحاكم العسكري، فأمر باعتقال الشباب وزجهم في غرف المدرسة
الابتدائية... ولكني سأجد طريقة للقدوم إليكم."
- لا تأتي إذا كان في الأمر خطر عليك.
- سآتي، لا تقلقي.
حاولت أن تسأله هل يسمحون للعنزات أن ترعى، أم منعوها أيضا، لكن الاتصال انقطع.
فعادت إلى الغرفة، ووقفت في مكانها المعتاد قبالة البحر.
بادرتها ذات الثوب الأبيض، وهي تقدم لها تفاحة: "كليها من أجل ابنك".
قضمت مضغة وقالت للممرضة: أنت إنسانة طيبة رغم أنك... لكنها لم تكمل، واكتفت بقول "يهودية"
في سرها، ثم تداركت وسألتها هل لديك أولاد؟
- لي ولد واحد، يخدم في الجيش، ويقود طائرة هليوكوبتر. ثم خرجت مسرعة بعد أن سمعت
من يناديها من رواق المستشفى، دون أن تنتبه أن كلامها وقع في جوف الجولانية كسائل
حارق، وترك أثرا من الدهشة والفزع في عيونها التي ما لبثت أن سارعت إلى سرير ابنها
تضمه إلى صدرها وتجهش في البكاء.
...
انتظر توغل الليل البهيم، وتحت غطاء الضباب والريح وسقوط المطر تسلل إلى قرية عين
قنيا، ودخل بساتين الزيتون، مختبئا تحت معطف فرو قديم، ومن هناك يمم وجهته نحو
بانياس، حتى تجاوز الحاجز العسكري، ثم أكمل ماشيا نحو مدينة "كريات شمونه"، ومن
هناك أقله عامل بناء من عرابة إلى مدينة حيفا، بعد أن عرف قصته، بعد أن استضافه
يوما في بيته وألبسه ثيابا نظيفة.
في الطريق إلى حيفا سأله العامل العربي:
لقد شاهدت في التلفاز تقارير عنكم، فكيف تستطيعون الصمود أمام الجنود؟ لا بد أن
سوريا تمدكم بالمساعدات والغذاء.
- إنها تحاول ذلك عن طريق الصليب الأحمر ولكن إسرائيل لا تسمح.
- إذن أنتم وحدكم في مواجهة دولة مثل إسرائيل... هذا صعب عليكم.
ثم سكت العامل وقد أخذه الشرود نحو ماض قديم... وعاد فأكمل: إني أذكر جيدا عام
1948، لقد لاحقنا جنود العصابات وحاولوا طردنا من بيوتنا وكأننا قطعان من وحوش
مؤذية، فمنا من هجر ومنا من بقي ولم يساعدنا أحد غير بعض اللجان التابعة للأمم
المتحدة.
....
في المستشفى بحث الاثنان عن غرفة الجولانية، فقيل لهما إنها خرجت وابنها نحو الشاطئ.
ولما اقتربا شاهدا عن بعد صبيا لم يتجاوز الخامسة عشرة، يمشي بساق واحدة، فوق
الرمال التي ما لبثت أن دفئت بشعاع شمس بزغت من بين غيوم متلبدة في استراحة يوم
ماطر. كان الصبي يتكئ على كتف أمه، بينما تمشى بجانبهما الممرضة.. اقتربا أكثر، حتى
أخذ العناق والبكاء حقه، ثم جلسوا فوق رمل الشاطئ. فقص الصبي عليهما:
"قد حامت طائرة عامودية فوق عنزاتي في يوم ضباب ماطر، ثم نزل منها جنود أخذوا
يلاحقونني، فجفلت العنزة الشامية وهربت نحو حقل عشب، فركضت خائفا أبحث عنها في
الضباب الكثيف، وهناك انفجر لغم، ولا أذكر سوى أن طائرة حطت وحملتني".
فرد الأب: عنزتك بخير، فقد ولدت وهناك ثمة طفلة، لا أعرف من أي حارة، أتت تعتني بها.
فأما الممرضة المغربية، والتي كانت تتكلم والجولانية، قالت موجهة كلامها للصبي:
أنا متأكدة أن الطائرة التى أجفلت عنزاتك لم يقدها، ابني وإنما قاد الطائرة التي
نقلتك إلى هنا.
لم يعر الصبي كلامها اهتماما وكأنه لم يسمع، وإنما أخذ يحاول أن يغمس قدمه الباقية
بين الرمل والماء، ثم قال مخففا عن أمه وأبيه حزنهما:
"قريبا سأعود لأرعى الماعز برجل واحدة".