فاصل موسيقي.
خريف الحكّام وربيع الشعوب
فاضل فخر الدين * - 22\03\2011
مَن منّا لا يتابع ربيع الثورات العربية منذ أن بدأت بشائرها في تونس ومن لم يرَ
ذلك الكهل التونسي الوسيم على الجزيرة يحسس على رأسه الشائب وتلمع في عينيه دمعة
حزن وومضة أمل وهو يقول:
"لقد هرمنا ..... هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية " ؟
ناظم الغزالي توفي عام 1963 وعمره لا يتجاوز الثانية والأربعين بعد أن عتب على
حبيبته التي "عيرته بالشيب وهو وقار". وفي مسرحية لولو عام 1974 يغني نصري شمس
الدين لزوجته اغنية البويا. أما غربان الحكام العرب (أمد الله في عمرهم ،حتى نشهد
بالألوان نهاية تليق بهم) فما زالت شعورهم أسود من بويا نصري رغم ان جلهم بلغ من
العمر أرذله.
وبعد ناظم الغزالي يقول وديع الصافي:
" قديش حلوة هالشيبة ، بتنقط حسن وهيبة
لو كنا بالعمر كبار عنا قلوب ولاد صغار
ومين قال الهوى عيبة"
قبل أيام أرسل لي أحد زوار موقع "اه يا سلام" كلمات اغنية لشادية عنوانها "أقوى من
الزمن" للشاعر مصطفى الضمراني وألحان الموسيقار عمار الشريعي فانتبهت أن في كلماتها
نفس المعنى الذي تكرره فيروز في رائعة اخرى تلت اغنية شادية تاريخياً وهي اغنية "في
قهوة عالمفرق" من كلمات وألحان الأخوين رحباني وقد غنتها في نفس مسرحية "لولو"
الانفة الذكر. والفكرة في الاغنيتين أن الإنسان يكبر أما الوطن فيبقى طفلاً صغيراً.
تقول شادية:
لما كنا صغيرين
كان لينا مكان صغير دايما تقابلني فيه
رحت تاني للمكان
لقيت أثنين بدلنا عايشين نفس الحكاية
ويتغير الزمان ويتبدل المكان
وتبقى يا مصر دايما طفل هيفضل صغير
بنحبه كلنا
وتقول فيروز:
في قهوة ع المفرق في موقدة وفي نار
نبقى أنا وحبيبي نفرشها بالأسرار
جيت لقيت فيها عشاق اتنين زغار
قعدوا على مقعدنا سرقوا منّا المشوار
يا ورق الأصفر عم نكبر عم نكبر
الطرقات البيوت عم تكبر عم تكبر
بتخلص الدني ما في غيرك يا وطني
بتضلك طفل زغير
فهل أخذ الرحابنة الفكرة ونسجوا عليها كلمات اخرى بنفس المعنى؟
رغم أنه لا يمكن المقارنة بين اغنيتين لاثنتين من عظماء الأغنية العربية ولأهم
شعرائها وملحنيها فالاغنيتين تصنفان ضمن الاغاني الوطنية مع أن البعض يرى أن اللحن
الرحباني يبدو رومانسيا قليلاً بالنسبة لأغنية وطنية.
كلمات الاغنيتين إذاًً تقول بما معناه: سقى الله أيام كنا أحبة نلتقي في مكاننا
المفضل ثم تغير كل شيء من حولنا ووجدنا مكاننا عاشقين صغيرين، وكبرنا وكبر كل شيء
حولنا إلا الوطن بقي طفلا صغيراً تتجدد محبته.
اليوم أرسلت لصديقين من أصدقاء الموقع، الباحث الموسيقي الدكتور فكتور سحاب -وهو
لبناني من أصل فلسطيني ويقيم الان في السعودية-، والمؤرخ والباحث الفني وجيه ندى من
الأسكندرية. سائلاً رأيهما في الموضوع.
الدكتور سحاب ارسل الرد التالي:
" كان صلاح جاهين معجباً جداً بشعر الأخوين رحباني، وهو ولا شك شعر جيد يجب ألا
ننكره في كثير من مواقعه لكن في يوم أسرّ لنا صلاح أنه فوجئ بأغنية فرنسية كلماتها
تماما هي كلمات أغنية الرحابنة: "بكتب إسمك يا حبيبي" والأغنية الفرنسية سابقة، لذا
أعاد صلاح النظر في رأيه برحابنة الشعر، وأنزل شيئا من مكانتهم ومع هذا أنا لا أرى
أن استلهام شعر الآخرين دليل ضعف على الدوام، لكن مقدار الخلق الجديد بعد الاستلهام
يقطع في قيمة العمل فإذا كان مقدار الخلق الجديد طفيفا كان العمل ضعيفا وفيه قلة
ذمة فنية أما إذا كان الاستلهام مفتاحا لبدء عمل جديد عظيم فأين المشكلة؟
لقد كانت كل الأعمال التاريخية الفنية الخالدة مؤسسة على ما سبق بشكل أو بآخر، وفي
اعتقادي أن التسرع في تحقير كل عمل فيه شيء من وحي قديم غلط، وكثيرا ما يتباهى بعض
الجهلة بأنهم "كاشفين" هذا العبقري أو ذاك وأن الناس لم يكتشفوه وهذا شيمة أنصاف
العارفين الذين يستندون إلى اكتشاف " يسعدهم ادعاؤه " لكن معك حق في هذه الحال لأن
الوحي لم يكتفِ بالوحي للبناء عليه بل استرسل في نقل المعاني ذاتها بكلمات أخرى
وهذا ضعف واضح. هذا رأيي وأرجو ألا يكون ظالماً"
نهاية الاقتباس.
في العرف الامريكي أن السنة التي يقضيها الرئيس في الرئاسة تعادل سنتين من عمره
بدون رئاسة. ويقارن الأمريكيون بين صور رؤوسائهم قبل استلام الرئاسة ومدى ازدياد
مساحة الشيب في شعورهم بعد الرئاسة، ولديهم بلا شك في هذا الكثير من صور الرؤساء
السابقين.
ربما تصعب المقارنة عند العرب لقلة الرؤساء السابقين ولكنهم يعودون بشعور ولحى أشد
سواداً مما كانت عليه قبل العمليات التي يجريها لهم الأطباء الأجانب في رحلات
استجمامهم الطبية الطويلة في دول الغرب. ربما لأنهم يخشون أن يزيل الأطباء العرب
صباغ شعرهم قبل اجراء العملية. لا أدري إن كانت هناك أبحاث علمية حول أن البويا
تحدث تجمداً في عمل المخ.
وصية الرئيس المخلوع حسني مبارك لوزرائة وقد بلغوا من العمر عتياً بمثابرة مسح
البويا على رؤوسهم للإبقاء على منظرهم الشبابي المتجدد للأبد لم تستطع تغيير
الحقيقة الازلية بأن الانسان يشيب ويأفل ويغرب بينما الوطن يزدهر ويشرق ويتجدد
دائما بدم شبابه ليبقى طفلا صغيراً يحبه كل من يراه.
يقول الشاعر أحمد فؤاد نجم مخاطباً مصر:
"الزمن شاب وانتِ شابة
وهو رايح وانتِ جاية"
هذا كان واضحا في الشعر منذ عقود ولكن الشباب يعيدون كتابة هذه القصائد بدمائهم في
ساحات الوطن العربي الان في ربيع الثورات. إنها سنّة الحياة الأزلية التي تستعصي ،لسبب
ما، على فهم عجائز العرب الطغاة، فهل يفهمون الان قبل أن تزيل الثورات رؤوسهم مع ما
عليها من البويا ؟
فاضل فخرالدين
مهندس برمجة كمبيوتر
تكساس، امريكا