هذيان العودة ...
من داوود الجولاني في 15 أبريل، 2011، الساعة 02:45 ليلاً
بعد غربة طويلة في مهجر اختاره طوعا، عبر الزمن بزوارق من ورق جرائد الأخبار
اليومية، فصلها على قد حلمه في أنهر تقتحم المدن، حتى أحس أن كل مدينة موطنه. فقد
كان يُعرف الوطن بحيز من الجغرافيا، يتيح له الثرثرة في ساحة عامة تملؤها طيور
الحمام، بينما المسنون يرشون فتات القمح، ويودعون الدنيا بشريط الذكريات، أما
الشرطة فقد كانت وظيفتها مساعدة الإشارات الضوئية على مرور راكبي الدرجات الهوائية
بين السيارات.
حتى اجتاحت تضاريس روحه ثورة ألحت عليه أن يعود، فأسرع وكأنه يسابق رياح رغبته.
وطار في السماء وحطّ في الجولان قبل ثلاثة أيام من 17 نيسان لسنة 2011.
أمه التي استقبلته بهرم السنين ضمته، وقالت: "قبلني في تجاعيد جبيني، ودفئ برد
شفتيك النحيلتين، وضع رأسك بين يدي عله يهذي بصوت يكسر طنين الصمت.. وقد أصفح عنك
ذنب الغياب الذي اقترفته بحق ثوبي الأسود، ونقابي الذي غار منه زهر اللوز زمنا،
والآن وشحه الوحل بلون الطين.."
هو كان مثل طير صغير تكور، خبأ بين يديها قلبا تعذرت منه مراميه فبكى، أما هي فبدت
مثل خابة عسل، قُدت من صوان وامتلأت بأزهار التين، ثم دلته على صبية كانت تنتظر في
البهو الوسيع المؤدي إلى حديقة مهملة.
الصبية أمسكت بيده وقالت: "العشب الضار فيها، طغى وتجبر على شفاف الورد.. وأنا أطلب
منك رعايتها.. ولكن لا تتعجل... وأحسم أمرك بعد ثلاثة أيام من الطواف في بلاد
الجولان..
وغدا لقائنا الأول"...
صباح الخميس لقمته أمه حبات زيتون وجبن مالح وقالت: إن عطشت فاشرب من جداول بحيرة
طبريا..
قادته وهي ترتدي قميصا اخضر مزرق.. وبنطال من الجينز أزرق، كزرقة سماء مستوحشة،
والعيون بريقها ليس إلا موج الشاطئ الشرقي للبحيرة.
سألته: إن عطشت من طعم الجبن؟ فاشرب... نفر من كلامها وقال: لن أشرب من ماء لوثته
الجرابات النتنة لجنود داسوا ماء البحيرة.
في صباح يوم الجمعة ناولته أمه باذنجان مكبوس ومخلل، وقالت له: أبحث لي في الجبال
عن مرعى لغنماتي.
قادته الصبية وهي ترتدي فستانا رماديا موشحا بالسواد، وقبة العنق وطرف الفستان زُين
بخيوط بيضاء فبدت مثل آلهة هادئة تجلس على صخرة بعد أن ملت التجول في السماوات.. ثم
رمت كندرتها الرمادية وركضت به نحو التلال الشمالية فشاهد ثكنات الجنود وحقول
الألغام فقال: "لا مرعى للأغنام هنا"...
دست في جيبه حفنة من تراب ومضت....
صباح السبت: لم تطعمه أمه شيئا وإنما دست في يده ثوبا أحمرا ومطهرا للجروح
وقالت: هي تحب هذا اللون فاذهب وراءها فهي هناك بمحاذاة الشريط الشائك تنتظرك..
كانت هناك عارية إلا من لون أحمر يقطر من جسدها حتى حسب أن خد أفق الفجر يرتديها..
اقترب، ثم اقترب أكثر، فبدت مثل نار تتوهج، دمها يسيل من جروح في جسدها.. وكانت
تشدو بمقدمة لأغنية لم يسمعها من قبل: " أنتم الصوت ونحن الصدى.. أنتم الورد ونحن
الشذى.. أنتم الفجر ونحن، لا لحن لنا.". ألبسها الثوب الذي يليق بعاشقة.. وعاد
متكئا على كتفها، كأنه الجريح وهي المسعفة .. نفض من جيبه التراب فوق أرض الحديقة
وبدأ ينمو.