عائشة
خطيئة أم حب.. 4
شهرزاد الكلمة - 06\05\2011
أعزائي القراء، سلامي لكم وكلي شكر وامتنان لأن تعقيباتكم في الحلقة السابقة زادتني
تحفيزا ومثابرة على أن أستمر بما بدأت. بعض التعقيبات أضحكني بشدة، وبعضها أعجبني
بشدة، والبعض الآخر نجح في أن يستفزني، فيبدو أن مسألة سوء فهم المقروء طاغية
وظاهرة. فمنهم من هم مصرّون أني كتبت كتيّب إرشادات للرذيلة، ومنهم المصرّ أنها قصة
حياتي الشخصية، غاضين النظر عن الناحية الأدبية في النص، وملتفتين فقط للناحية "الغير
أدبية" -على حد قولهم- مع أنني ذكرت في الحلقة الأولى أن البطلة كانت تسمع قرع
أجراس الكنائس حين كان حبيبها يدنس طهارتها، ملامسا ثنايا جسدها بيديه، غير آبه
لقرع أجراس الكنائس، فهل شاهد أي منكم أي أجراس أو أي كنائس في قريتنا الغالية؟!
...
انتعلت حذائي ونزلت إلى الشارع وناديت: عم،
يا عم! وكنت قد أخذت من على مكتبتي ورقة الخمسمائة ليرة، وهي كانت كل ما تبقى من
مصروفي هذا الأسبوع. توقف الرجل ونظر إليّ، وكان الحزن في عينيه عميقاً كعمق جذور
الحور في التراب، وكان الشيب قد احتل رأسه كما احتل الصهاينة مدينة الصلاة. كان
وجهه مليئا بالخطوط والثنايا، وكل تهدل في وجهه كان يحكي صفحة من العذاب والألم.
فكرت لوهلة: لماذا كل هذا الحزن؟ ماذا هناك خلف هذه الجفون؟ أي رؤية وأي ذكرى قد
تعكس كل هذا الشحوب على محيّا رجل قد قارب الستين من عمره؟؟
سألني: هل تريدين شراء شيء يا ابنتي؟ أجبته: كلا. شكراً يا عم. لكني رأيت ورقة
العملة هذه تسقط منك منذ حين. فقال مبتسماً ابتسامة مثقلة بالهموم: بارك الله فيك
يا ابنتي، لكن لم يكن في حوزتي فلساً واحداً. خذي المال فهو لك. وتابع مشواره في
حيّنا الصليبيّ الذي ساد عليه صمت الطبقيّة. أوقفته وقلت: لا يا عمي. قال: إسمي أبو
همّام.
هذا المال لك. خذه أرجوك.
قال: لكنتك غريبة يا ابنتي! أنت لست لبنانية. من أين أنت؟
أجبته: صدقت يا عم. أنا عراقية الأب ولبنانية الأم. جئت وعائلتي من كربلاء العراق
منذ سنتين، ونقيم هنا في بيروت حيث أقارب أمي. فقد جار علينا الزمان في العراق إثر
الحروب الطائفية والإرهاب الذي طاردنا كالغول، وها نحن ذا والشكر للرب.
قال: أتعرفين؟ أنت تقريباً بعمر ابنتي عائشة. إنها في العشرين من عمرها، لكنها
مقعدة، طريحة الفراش منذ أكثر من سنة. لو أنها تستطيع المشي.. فقد كانت خفيفة
كالفراشة.
قلت له: مسكينة عائشة. شفاها الله. ما الذي أصابها؟ أهو مرض أم حادثة؟
قال: نحن من قطاع غزة يا ابنتي، وعائشة هي الناجية الوحيدة من بين إخوتها. فقد
سلبتها الغارات الإسرائيلية أمها وأخوتها الخمسة، في حرب إسرائيل على غزة في مطلع
العام الفائت. فقد كانت عائشة الوحيدة التي وجدت على قيد الحياة تحت حطام منزلنا.
قلت: يا رب السماوات، أنت من فلسطين؟
أجابني: نعم، لقد أتيت بعائشة إلى هنا علّي أستطيع معالجتها.
ثم تابع: سأشتري لها كرسيّاً مدولباً آخر الشهر، فلقد كنت أدخر ثمنه منذ أشهر،
علّها تخرج من حزنها ولو قليلاً. كم اشتقت لأن أراها تبتسم جديد.
فقلت له، بعدما حاولت جاهدةً لحبس دموعي: أين تعيشان؟ ومن يعتني بها؟
قال: جارتنا أم جرجس تعتني بها مقابل أجر بخس إلى حين أعود من عملي.
- وهل هناك امل من شفائها؟ هل ستمشي مجددا؟
- لقد قال الأطباء أن هناك أمل بعد عملية جراحية، لكنها مكلفة جداًّ يا ابنتي، وليس
بمقدوري أن.. وغص في الكلام، وترغرغت عيناه بالدمع، وتابع.. أن أدفع تكاليف الجراحة..
فأنا لا حول لي ولا قوّة.
تمزق قلبي إربا ساعتها. كيف لك أن ترى شخصا قارب عقده السادس يبكي ابنته المقعدة
وأبناءه الخمسة وزوجته، ولا تنهار؟
مسح أبو همام دمعته محرجاً وقال: لقد كانت عائشة مخطوبة، لكن خطيبها سامحه الله،
تركها عقب الحادثة وتزوج من ابنة عمه، وهجّ إلى الخليج. مسكينة عائشة، الصدمة كانت
موجعة لها كثيراً.. وأردف: اعذريني يا ابنتي، لقد ضايقتك بكلامي، خذي هذه الساعة
هدية مني مقابل المال الذي تدعين انك رأيته يسقط مني، وإلا لن آخذ أي مال. فجاوبته:
لا لم يضايقني كلامك يا عم، بل بالعكس. شكراً لك أيها الرجل الطيب، وكان الله يعونك،
وشفى ابنتك. وهممت الرجوع إلى المنزل، مشيت خطوتين والألم يملأ قلبي، كبئرٍ مهجور
امتلأ بطنه ماءا موحلاً، ثم استدرت والريح ينثر خصال شعري السوداء كعلم حداد استبق
جنازة أم، وندهته قائلة: هل باستطاعتي زيارة عائشة يا عمي أبو همام؟ أجابني: بالطبع
يا ابنتي حبذا لو يكون لعائشة صديقات.
أعطاني العنوان ومشى، والكيس الكبير المحشو بالأغراض يحني ظهره الكهل.
صعدت الدرج إلى منزلي مهرولة، ودخلت غرفتي، وارتميت على السرير، وبكيت، وفكرت في
ذات نفسي: تباً لك يا أمي، فقد أورثتني الغدة والأنف الطويل وقلباً طيباً حنوناً،
مالي أنا ولرجل فقير مار من أمام نافذتي بالصدفة؟ مالي أنا وهذا العذاب الذي سرق
مني فرحة قبلتي الأولى؟ وهيمنت على عقلي صورة أبناء فلسطين، أبناء الحجارة، ودماء
الشهداء، وعائشة المقعدة. كم هو كبير حزنها، وكيف لها أن الشفاء منه؟! حزن على أم،
وحزن على وطن، وحزن على حبيب خذلها وهي بأمس الحاجة إليه. ويح هذا الزمان. ويح لقدر
كتب على فتاة في ربيعها العشرين أن تتمرمر ثلاثمائة وخمسة وستون يوما في السنة. كم
أنت قاس أيها القدر! كيف لك أن تسلب المرء كل شيء؟ وتكفنه حياً بكفن الآه الممزقة؟
ويحك أيها القدر، أكنت غاضبا وقتها، فحكمت على فتاة بالموت الحي.. بإعدام يتنفس؟ أم
هو عقابك المنصف لذوي النفوس الضعيفة؟ كم جيلاً أذنبوا؟ كم من المعاصي اقترفوا حتى
أنزلت سخط انتقامك عليهم بهذا الغل؟ كم أنت قوي أيها القدر.
مسحت عيني التي نزفت الدمع دما على شهداء فلسطين، وعائشة المقعدة وأمها وأخوتها
الخمسة، وسيطر الإصرار على عقلي، وأقسمت بأني سأجعل عائشة تمشي، وسأتكفل بلم تبرعات
تكفي لإجراء جراحتها..
عائشة الفتاة التي لم ألتقها لكني أحببتها وشعرت بها ولمست حزنها من بعيد.
أخ.. كم من عائشة في هذا العالم الكبير، وكم من أبي همام، وكم من قضية عربية ستبقى
قيد الانتظار..
ويتبع...
إقرأ: