معجبون وضحايا *
زهرة نيسان - 10\05\2011
جلستُ في المقعد الأمامي متلهفة، أنتظر اعتلاء كاتبي العظيم مسرح قاعة المؤتمرات
التي خصصت لاستقبال الشخصيات المرموقة من كتاب وشعراء وشخصيات سياسية ذات مستوى
رفيع، والتي سيعقد فيها اليوم مؤتمر حول كتابه الجديد.
دقائق قليلة وضجت القاعة بجمهور غفير، ذلك أن كاتبي كان يتمتع بشهرة على نطاق واسع،
وكان الحظ الأوفر للنساء اللاتي جئن من كل قطر ليتمتعوا برؤية أسطورتهم على أرض
الواقع، ما جعلني أشعر قليلا بالغيرة لولا تأكدي أن علاقتي به مختلفة عنهن.
وما أن أطل الكاتب من خلف الستار حتى علا التصفيق ووقفت الجماهير احتراماً للكاتب
العظيم. كاد يغمى علي وأنا ألمحه للمرة الأولى، رجل في الخمسين.. ذو هيبة.. واثق
الخطى.. والشيب الذي غطا رأسه ملأه وقاراً بوقار.
وقف الكاتب وقفة اعتزاز وفخر، وشكر بتواضعه المصطنع احتفاءنا به. شعرت أنه يشكرني
أنا بالذات لأنه حين وزع ابتساماته على الجمهور خصني ببسمة مميزة شعرتها تعبرني حتى
أدق أطرافي.
بدأ حديثه: أهدي كتابي هذا إلى ملهمتي التي أهدتني اسم هذا الكتاب "إلى الغائب".
امتلأ قلبي غبطة وأنا أسمع. هذا هو عنوان النص الذي أهديته إياه قبل أعوام. كنت قد
كتبته لكثر ما اشتقت إليه، ففاجئني بتساؤله: أنت تتمتعين بإحساس صادق وقدرة خلاقة
على الكتابة. أُعجب أن لا احد اكتشفك حتى الآن.
فقلت بخجل: ربما كنت بانتظارك.. أن تكتشفني أنت..
قال: ستكونين أبرز اكتشافاتي.
عدت أتابع المؤتمر بلهفة أقوى من قبل.
فقال: سأستهل حديثي برسالة كتبت في زمن ما، لامرأة ما، وعلى أثرها اخترت اسم الكتاب.
ذهلت من كلامه وغمرتني سعادة غريبة يملؤها غرور. أيعقل أنه قرر اليوم أن يعلنني على
الملأ؟
أقرر أن يفاجئني ويختار هذا اليوم ليقدمني؟ ألهذا أصر على مجيئي؟
إلى الغائب
حين أشتاق إليك تتسلل داخلي قشعريرة برد لست أفهمها، فأشعر بمساحة صدري تضيق أمام
الهواء الذي تحتاجه خلجات جسدي المضمحلّ، فيزداد تضارب قلبي المرتجف، ويتسارع
الهواء في دخول صدري الضيّق والخروج منه، دون أن يملأ حاجاتي به.
فأشعر باختناق حاد يجتاحني، يصاحبه ألم الحنين والحرمان، وحاجة عطشى بأن تعود، تشبه
حاجة المدمن للمخدرات.. تشبه شغف الرضيع إلى صدر أمه.. بل حاجة أقوى بكثير!! تشبه..
لست أدري كيف أصفها.. لكنني أعلم سيدي أنني أعجز عبورها بنجاح..
تتدفق إلى جسدي حمى بركانية تصهر معها ما تبقى من قوة لي.. فأجد نفسي ضعيفة أمام
غيابك.. أبكي وحدتي بتقطّع مستمر يمزق معه أوصالي.. فتنساب جرعات الألم ببطء إلى
أطرافي.. لتمنحني تذوّق طعمها المر، من مراحل التطور حتى بلوغها النهاية الجسيمة..
تتملكني رغبة قوية في البكاء.. أفجر فيها معاناتي في ظل غيابك
تتحول رغبتي هذه مع مرور الوقت إلى حاجة أكبر.. لصراخ يشبه عويل ذئبة ثكلت أبناءها..
علَ حشرجة صوتي تنجح في استقطابك..
فيفشل صوتي.. يفشل عويلي.. وأفشل في استعادتك..
فأعود إلى إدماني السابق.. وأتجرع كاسات من الخمر المر.. التي اعتدت تجرعها كلما
استفحلت فيّ الحاجة إليك.. لكنني أخفق في التغلب عليها.. حتى أثناء سكرتي..
تبقى حاجتي إليك أقوى من أي احتلال يجتاح معالمي.. وتبقى أنت أقوى مني.. من حاجاتي..
وتوسلاتي..
فأستسلم مرة أخرى لإدمان آخر.. فأبتلع أقراص المنوم العظيمة في تركيبها وتأثيرها
السريع.. لتحتل جسدي شيئا فشيئا.. وأصغي بعجز إلى هدوء أعصابي.. بعد تلك العاصفة..
وأغيب رويدا عن عالمي .. دون أن تغيب صورتك.. وأستسلم للمرة الأخيرة في نوم هادئ
مجنون.. يعيد إلي سكينتي..
فأرتمي بكسل بين أحضان الوسائد الخالية.. وأنام في مأمن مصطنع.. في انتظار عودتك.
وما أن أنهى قصيدته حتى قفز الجميع من أماكنهم يعظمون ويمجدون هذه الروعة التي
ألقاها على مسامعهم.. وبينما كان يستقطب هتافاتهم التي زادته غرورا لمحني أجلس
مذهولة.. حين قدمها على أنها من إنتاجه الأدبي.. فرمقني بنظرة استجداء.. يرجوني أن
أصمت.. وفعلا صمتّ..
من سيصدق أنني أنا النكرة كتبت؟!!
وقفت عن الكرسي.. حبست دموعي.. جررت خيبتي خلفي ومضيت..
___________
* العنوان مستوحى من كتاب للدكتورة هيفاء بيطار.. "s.m.s"