غباء القطيع وعبقرية السرب - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني


غباء القطيع وعبقرية السرب (1)
فاضل فخر الدين - 17\05\2011

تدور الارض حول الشمس ستين مرة. تنطلق جموع منظمة مرة تلو المرة. لها رأس ونظام وشعار وهدف. لها وسائل وغايات وطرق. ومرة تلو المرة تكسر الرجل فيسقط الجمع، يقطع الرأس فينحل الجسد ويتبعثر الاف الشظايا. وبعد حين ينمو رأس جديد فيتجمع الجسد ليتكرر الشيء نفسه. الاف المرات تندلع الحروب وتتحارب السيوف بالسيوف وتنطلق المدافع وفي كل مرة ينتصر القوي ويهزم الضعيف. وتشرق الشمس كل صباح وتغيب كل مساء وتحترق الجموع وتموت الأحلام.

وفجأة يولد مارد رهيب ضعيف. ينفض جسده من تحت الرماد، جسم عظيم لا تدري كيف ولد. وحش لطيف لا رأس له ولا يد ولا رجل. لا تدري من أين يتكلم وكيف يتحرك وأين مقتله. لا تعرف له يد من رجل ولا عين من أنف. شكل كبير ملون بكل الالوان يزحف يميناً ويساراً وإلى الأمام وإلى الخلف و يتلوى من الألم بكل أتجاه. تحاول أن توقفه، تقطع منه شيئاً دون تعرف ان كان هذا الشئ رأساً أم رجلا أم يداً فتنبت مكانه ألاف الاشياء يأكل كل شيء ولا يأكل شيئاً ثم يذهب مثلما أتى لا تعرف من أين أتى ولا تعرف أين اختفى. وفجأة ينتصر الضعيف ويهزم القوي.

على مدى عشرات السنين، يتظاهر ألاف البشر في كل مناسبة يقودهم رؤساء أحزابهم ومقابلهم مئات من بوليس الأمن المدججين بالسلاح، يقبضون على القادة ثم تفتر الهمم وينتهى كل شيء بعد ساعات.
وفي غفلة من الزمن يثور ملايين البشر، لا قائد لهم ولا سلاح بأيديهم تقابلهم ملايين اخرى مسلحة فينهار كل شيء فجأة، في عدة ايام وينتصر الضعيف ويهزم القوي.

على مدى اثنتين وستين عاما يحاول المشردون اختراق الحدود أفرادا وجماعات أقوياء ومسلحين. يركبون البحر ويطيرون في السماء وفي كل مرة يفشلون ويسجنون ويقتلون. وفجأة يأتي الاف الصغار يقطعون الحدود وهم ينشدون ويبكون ويضحكونز يأتون ويعودون ولا تفهم كيف أتوا وكيف ذهبوا.

-----
ننظر للحيوانات المهاجرة فنعتقد أنهم يتبعون قائدهم. ونعتقد أن سرب الطيور المهاجرة يتشكل وراء واحد منهم يحمل البوصلة باتجاه الجنوب ويتبعه الباقون.

ممالك النمل والنحل ليست مكونة كما اعتقدنا طويلا من أفراد أذكياء لكل منهم وظيفة محددة، مهندسون أذكياء ومحاربون أذكياء وعمال تنظيف أذكياء. إذ لا عمل لملكة النمل سوى انتاج البيوض. وجيش المحاربين لا قائد له ولا يتبع جامعو المؤنة رئيساً ملهماً.
النملة غير ذكية ولكن مستعمرة النمل بغاية الذكاء. النحلة لوحدها غير عاقلة ولكن مملكة النحل يغاية العقل والدقة والنظام.

الأفراد في ممالك النمل والنحل لا يعقلون بينما تتخذ الجماعة قرارات بمنتهى العقل والحكمة والذكاء. قرارات مصيرية للبقاء، صحيحة دائما دون أن تكون نملة ولو كانت الملكة أو نحلة مهما علت رتبتها مسؤولة بمفردها عن ذلك القرار، فكيف هذا؟

نظرية السرب أو بالانجليزية
Swarm Theory
تفسر هذا وهي من أحدث النظريات العلمية في دراسة السلوك الجمعي للحيوان وقد تمت الاستفادة منها في تطبيقات عملية كثيرة كجدولة مواعيد الطيران او خطوط نقل شاحنات الغاز هنالك مقال رائع حول هذه النظرية في الناشيونال جيوغرافيك (2).

--------------
في ذكرى النكبة قبل عدة سنوات ذهب أحد الصحافيين الاجانب مع فريقه إلى مخيم للاجئين الفلسطينيين في الأردن لمقابلة إحدى العجائز التي عاصرت نزوح النكبة يرافقهم حفيدها الجامعي ليترجم ما تقوله الجدة.
أراد الصحفي أن يفهم كيف يقاد مئات الاف الفلسطينيون لترك بيوتهم وضياعهم ولم يقتل في مجزرة دير ياسين إلا بضع مئات.
قالت العجوز لحفيدها : "كول لو تيّسنا".
فسأل الصحفي ماذا تقول الجدة؟ تأخر الحفيد بالترجمة. فقالت له الجدة ثانية:
" بكول لك، كول لو تيّيسسسسنا....... لحكنا التيس وهاظ اللي صار فينا".

إثنتان وستون
سنة و"القطيع" ينتظر "التيس" الذي يقوده إلى حريته ويعطيه حقوقه ويبني له دولة المواطنة ويساويه في الحقوق ويأكل لقمته بكرامته ويحفظ له إنسانيته، أويقوده عائداً به إلى وطنه.
اثنتان وستون عاماً ولم يأت ذلك "التيس". فهل عرف ذلك المارد الضعيف طريق النصر لتهزم عبقرية السرب غباء القطيع؟

-------------------------
(1) كلمة قطيع بمعنى مجموعة لها قائد وليس المقصود بها الحيوانات في هذا النص.
(2) انظر هذا الرابط:

http://ngm.nationalgeographic.com/2007/07/swarms/miller-text/1