حلقتي الأولى
"حزيران-2007"
زهرية نيسان - 21\09\2011
كان الوقت ربيعا، لا يشبه ربيع عمري، وبالتحديد أواخر الربيع.
ثلاثاء جميلا.. رغبت حين بدأ، لو أنه لا ينته..
أذكر يومها أنني ذهبت لزيارته كعادتي.. وكنت سعيدة للغاية.. رغم ارتباكي وخوفي..
ولطالما انتابني هذا الشعور!! لأنني أخشى عليه.. أخشى على نفسي لأجله.. وأخاف
للقاءاتنا أن تنعدم..
التقاني بحفاوة.. كأنه لم يرني منذ أعوام، رغم أننا كنا معا يوم الجمعة الفائت..
جلس يحدثني والسعادة تلمع في عينيه.. في وجهه وفي كل أنحاء جسده.. فرحة مرتبكة لم
أشهدها فيه من قبل. وبلهفة عطشى احتضنني.. ولفني بوشاح سعادته.. وكأن هذه السعادة
تخصني أنا..
أمسك رأسي بكفيه الكبيرين، نظر إلى عينيّ بشغف يحاول أن يتكلم، كأنه طفل بريء يتعلم
النطق للمرة الأولى!! عجزت كلماته عن التحرر، وتفجّرت رغبته في الحديث.. فأخذ
يلتهمني كمن لم يذق طعاما يشتهيه منذ أيام.. انتقلت تلك السعادة إلى أطرافي، عبر
مسامات جسده الحارة.. كمن يلتقط فيروس الحمّه بالعدوى.
سرت في جسدي رعشة غريبة أشعلت حواسي الخمس.. تملكتني رغبة قويّة مؤلمة لذيذة..
أيقظت الأنثى التي تسكن في داخلي.. تلك الأنثى التي نامت سنتين ونصف السنة استيقظت
الآن.. للمرة الأولى ..
حرارة ملتهبة مشت في عروقي.. توقّف عقلي عن التفكير وكأنه وقع تحت تأثير تنويم
مغناطيسي.. غلبة أصابت قلبي فأخطئ في عزف نوتته المعتادة.. حرقة دافئة احتلت معدتي
وانطلقت تلك الحرقة مسرعة نحو الأعلى حتى استقرت في حنجرتي.. رجفة ما.. سطت على
أصابعي.. وثقل غريب احتل أجفاني ففشلت في فتحمها..
كل هذا الغزو المفاجئ.. وضع جسدي في حالة تأهب.. ويبدو لي أن هذا الغزو قويّ لا
يقاوم بسهولة.. فأعلنت أركان جسدي الحرب..وحاولت جاهدة المقاومة..
سرعان ما تحولت ساحة المعركة بحيرة ضحلة غرقت فيها.. واستسلمت عاجزة أمام هذا
الاحتلال الرائع..
كانت هذه هي المرة الأولى التي أربح فيها الحرب وأخسرها في آن واحد..
كانت هذه المرة الأولى.. والتي أصل فيها لقمة متعتي معه..ووحدها كانت الأخيرة.
"من أجمل الأمور.. تلك التي تحدث معنا مرة واحدة.. ذلك لا يلغي أن الأمور التي تحدث
معنا باستمرار هي أيضا جميلة.. شرط أن نحرص دائما أن لا نجعل منها عادة متكررة، حتى
لا تصبح مع الوقت أمورا عادية.. ينتهي بها الحال إلى عادة سيئة.. فنضطر مكرهين
التخلص منها.."
تملكني شعور غريب مخيف ساعتها.. لم أكن أدري مصدره أو حتى سببه.. لكني أذكر أن قلبي
دق بسرعة مخيفة.. كمن ينذر بكارثة ستحدث أو بمصيبة ستحل.. لا أدري كيف أصف ذاك
الشعور.. لكنني حاولت جاهدة طرده.. لأسترسل في نشوتي الأولى..
أذكر أيضا أنه ورغم المتعة التي حظيت بها وقتها.. إلا أنها لم تكن تمتلك نكهة
القبلة الأولى.. تلك القبلة.. تلك القهوة الصباحية.. لا تشبهها أي نكهة أخرى.. حتى
القهوة الصباحية نفسها.. تلك القبلة، كانت ألذ قهوة على الإطلاق.. كانت صادقة..
بريئة.. لا تشبه الخيانة التي ارتكبناها اليوم معا!! كل في حق نفسه، وفي حق امرأة
كنت لا أزال أجهلها..
عدنا نتجاذب أطراف الحديث، وأخذت أسأل عن هذا السحر المتجدد فيه.. عن تلك اللمعة في
عينيه.. عن سر سعادته المفاجئ..
عندها!! انقلبت الأشياء رأسا على عقب..
وكأن السماء أظلمت فجأة.. وكأن الصمت كان لغتنا المعهودة.. ولكأن سحره اختفى.. بل
اختبئ خجلا مني..
تحول العالم من حولي إلى شيء غريب.. وكأنني فيه للمرة الأولى!!
ما سر المرة الأولى!!
أكانت هذه حلقتي الأولى؟ الغريب أن كل الأشياء تقابلني اليوم للمرة الأولى..
نظر إلي بقلق يملئه ارتباك خجول.. تلته بسمة مصفرّة.. تحوّل معها بريق عينيه إلى
فتيل سراج يلفظ أنفاسه الأخيرة..
لا أدري إن كان سحره من لفظ أنفاسه.. أم أنني أنا من لفظته..
لماذا أيقظ تلك الأنثى التي سجنت في داخلي، ما دام سيعاود قتلها؟ أم أنه لا جدوى من
قتل أنثى لم تكن تحيى بالأساس؟
وهل يقتل الميت مرات عدة؟!!
صرت أتمنى لو أنه بخل علي أكثر.. تمنيت لو أنني لم أعرف ذلك الإحساس.. تمنيت لو
أنني لم أذق تلك المتعة التي بعثرت أشلاء جسدي معها في كل اتجاه..
قالها بفخر المنتصر بعد حرب عالمية ثالثة.. حرب دامت سنتين ونصف السنة.. وانتصر بها
أخيرا..
قالها.. وليته لم يقل..
تمنيت لحظتها لو أنني صماء.. لأمنع كلماته السامة من اختراق أذناي وتمزيق ما تبقى
من قلبي.. تمنيت لو أنني لم أعرفه.. ولم أعرف متعتي الأولى معه ولم أصل إليها.. لو
أنني فعلت أي شيء آخر.. أي شيء.. تمنيت لو أنني لم أسمع ولم أعرف، تمنيت كل شيء..
لكنني لم أتمنى وجود امرأة أخرى تحتل مكاني..
حاسة سادسة أمتلكها..أخبرتني مسبقا عن ضالته التي وجدها.. وأخبرتني أيضا عن وجودي
الذي ضلله..
تلك الحاسة اللعينة.. ليتني انجح في اقتلاعها.. وتمزيقها.. كما مزقت قلبي ودمرت
معها مستقبلي..
وأي مستقبل هذا؟!!
مستقبل، لا وجود له فيه.. فارغ.. ممل.. موحش.. مخيف؟
مستقبل، لم اعد أدري كيف سأقضي لياليه.. ولماذا سأعيش فيه؟
أهناك حقا مستقبل؟
لا أذكر كيف نجحت، فابتلعت ريقا مرا كالعلقم، استجمعت قواي ورسمت ضحكة كاذبة بين
شفاهي..
لا أدري إن كان قد صدق بسمتي الكاذبة هذه..
لا أدري إن كان يهمه صدقي أو حتى كذبي ..
ولست أدري إن كان معي أنا وقتها أو أنه كان معها هي..
أذكر فقط أنني كنت في داخلي أتقطع إلى أجزاء صغيرة.. تصغر وتصغر حتى تنتهي فينعدم
وجودها، وينعدم وجودي مع انعدامها..
أكانت الأنثى الماثلة أمامه أنا!! أم انه حقّق معي رغبته فيها!!؟
ولماذا الآن بالذات؟!!
ألانني اليوم أكثر حاجة إليه؟!! أم لأنه أكثر حاجة إليها؟!!
راح يتابع حديثه عنها.. وأنا أبتسم بل أضحك.. لأنني لم أكن أستمع إلى حديثه.. كنت
استمتع في صمتي.. كنت أحاول إنعاش ذاكرتي الملوّنة معه.. قبل أن يقضي عليها تماما..
فيحولها إلى سواد قاتم!!
أكنت أضحك لصمتي أم كنت أضحك له؟ أم أني كنت أضحك على نفسي؟!! أم تراني كنت أبكي
تحت اسم مستعار؟!!
فهمت وقتها أنه لم يعد هناك متسعا لوجودي معه.. لم يعد هناك مكانا للهو واللعب..
ولا مكانا حتى للضحك..
لملمت أشلائي المبعثرة هنا وهناك.. تحت الكنبة.. فوق الطاولة.. وهناك على الرفوف،
وأشلائي العالقة بين ثناياه.. لملمت أوراق حياتي المتبقية.. ألصقتها برفق فوق بعضها..
وضعتها بدرج خفيّ في حقيبتي السوداء كليالي القادمة.. انتفضت واقفة.. لكنني حرصت
ألا أنفض غبار عطره عني.. أقفلت الباب ورائي.. دون أن أنظر خلفي.. ودون أن أطبع
قبلة أخيرة في كفه الأيسر كعادتي..
رحلت لا مودعة.. فلا مكان للوداع البطيء في قلبي.. لا مكان لدموع قد توقظ رجولة
أطفئها فيه منذ قليل.. لا مكان لأي شيء يخصني..
مكان واحد هناك!! مكان لتلك الأنثى التي أحياها معي.. وقتلني بها قبل قليل فقط..