الوداع الأخير
بقلم محبي فراس – 05\10\2011
بكلمات أغنية (ودعت أمي وما عرفت انو هذا آخر وداع يكون ...) راقص فراس فجر يوم
الخامس من تشرين الأول على قارعة الطريق راكضاَ بين بيوت الحارة والجيران يعلن
عليهم وداعه, ويقول : لم يعد لي مكان بهذا المكان والزمان تاركاَ ضحكاته ترن على
مسامع الجدران تعتصر الألم وتجوب بين العتمة والفجر , لتقول له: سنلقاك بعد شهرين
أيها المسكين محمولاً على الأكتاف ... غني ما شئت ... ارقص ... وامرح فهي لحظات
قليلة متبقية من عمرك بين أغلى الأمكنة على قلبك .
ولدتَ وكبرتَ , بكيتَ ولعبتَ, صرختَ ... هنا كل الذكريات تكتبها اليوم على جدران
صماء لم تساندك ولو بضمة أو قبلة كانت تودعك غاضبة , لم تعطيك أمل أنها ستحضنك ...
إلا بتابوت ...
بمثل هذا اليوم بالذات وقبل سنة كان يومك الأخير بهذه الأمكنة بقريتك الغالية التي
عايشتها بروح المتمرد الثائر الذي يحب الحياة ويصارع من أجلها , استقبلتَ فجر هذا
اليوم ولم تعرف عيونك طعم النوم فهذه اللحظات الأخيرة , كيف تجعل عيونك تنام وتأوى
الفراش ... لا وألف لا .
كنت تعي ما أنت فاعل راقصت الشوارع وانطلقت تركض وتصرخ ,ذاهب إلى السماء , لم تعي
حتى إلى أين ؟
كنت تركض فراس على كلمات هذه الأغنية مودعاً الجميع بدون أن نصدق انه الوداع الأخير...
كان ينادي والدته التي لم تذق طعم النوم , لتجالسه وتسرق الثواني واللحظات الأخيرة
لها معه , وتدعو الله لتطول اللحظات ويبقى بجانبها ... آه .. لم تعرف أنها ستكون
اللحظات الأخيرة , أي قدر قاس أنت ؟! هذا الحضن الغالي , الجسد والروح سيسافر ...
ولن يبقى لها غير الصوت عبر الهاتف لفرقة أخرى ووداع آخر .
صباح لم نعي جميعنا انه الأخير , عيون متألمة , دموع متناثرة وابتسامات ملؤها الحزن
, غصة لفراق كان يراودنا شعور بأنه قاسي وظالم لكننا , لم نعي انه الأخير ...
كانت لحظات أخيرة كل ما تبقى لك بهذا المكان , بمركز الشام ببقعاثا بين أغلى الأحبة
والأهل .. كنت تغلي وترقص فرحاً وتصرخ : أيها القوم ! ها أنا ذاهب ... كنت تعلمنا
للمرة الأولى بالحياة ان هناك شخص يعلن رحيله بطريقة واضحة , معلن سفره الأبدي .
عيون والدتك تراقبك ... وأنت تحتضن رفاقك , تبتسم , وغصة في القلب لم ندري معناها
ولم نشأ أن نرى إلا فراق يصعب تصديقه .
صعدتَ الحافلة بعد أن بكيتَ للمرة الاولى , بكاء أدهش الجميع , كنت تبكي رحيلاً ...
لا مكان لك بهذا الكون معنا ... عانقوني أهلي ... أصحابي رفاقي ... فلن أراكم ثانية
ولم تلمح عيوني عيونكم بعد الآن ... هو الوداع الأخير ....
دعيني أمي ألامس وجهك ....
أقبل وجنتيك ...
أمسح دمعك ...
ارتمي بأحضانك للمرة الأخيرة ... فها أنا مسافر...
صعدتَ الحافلة , ولكن شيء ما بداخلك أرجعك مرةً أخرى وللمرة الأخيرة , بعطرك ...
بأنفاسك بجسدك .. بدقات قلبك المتوجعة .. رميتَ جسدك بأحضان أمك , أيها الغالي قهرتَ
الدهر مرةً أخيرة وسمحت لك الفرصة للمرة الأخيرة بالثواني المتبقية هنا .. لتودع
أمك مرة أخيرة وللأبد ... ثوان فصلت الجسد عن الروح .... لا بل فصلت الروح عن الروح
.. وفصلت الأم عن الحياة ...
وما زالت تفصلها حتى الآن لأنها ... بدونك .
صعدتَ الحافلة وأخفيت بكبريائك دموعك المتعطشة لكل أحبائك , ودّعتَ هذا العالم وكنت
على يقين بأنك مسافر ... السفر الأخير .
مشت الحافلة ... وخيم شبح أسكتنا وألم لم نعرف كيف نسكته !! صاح بقلبنا مارد الخوف
...شيء ما قد يحصل , لم نعرف أسباب هذا الخوف إلا بعد شهرين ... وبعد أن رحلتَ
الرحيل الأخير ! .
حضنتك الشام .. عانقتك .. أعطتك الحياة شهرين .. كنت تحلم بهم وتقاتل من أجلهم ,
كنت تحلم بأيام أخيرة لم تكن كباقي الأيام فحملت معك أجمل الأيام بأجمل الأماكن
وأروع العطور مع ياسمين دمشق وحاراتها القديمة وقاسيونها , هي الأمكنة التي ضمتك
كحضن أمك وساقتك أقدامك وقدرك الى هذه النهاية بعيداً عن ذويك ... قريباً من حلم
راودك ... رحلت أيها الغالي ولم ترجع الينا إلا جثة هامدة وما زلت في قلوبنا ,
وكأنه بالأمس القريب ... لا ! حتى هذه اللحظة نسأل ... هل حقيقةً أم أننا نحيا كابوساً.
نفتقدك أيها الغالي
أهلك , رفاقك ... ستظل في قلوبنا على طول العمر بذكراك الغالية . رحمك الله ...