فيروز.. عظمة ستين عاماً
كنان غسان رباح – 21\11\2011
سيدة هي.. رائعة الصوت واللحن والكلمة. قد اعطتنا الكثير من جمالها ورونقها
وأتحفتنا بغنائها العذب. ومن منا لم يسمع صوتها بطفولته وعند الكبر؟ لقد عاشت معنا
معظم أوقاتنا لدرجة أننا نجد مكاناً لنا بجميع أغانيها. فهي رسالة كونية. وبمناسبة
عيد مولدها السادس والسبعين أريد أن أشارككم هذا الكلمات التي كتبها عنها الشاعر
انسي الحاج في آذار من العام 1970 بعد تقديمها مسرحية "يعيش يعيش" على مسرح قصر
البيكاديللي ببيروت:
أحبها بإرهاب - انسي الحاج يكتب عن فيروز
في حياتنا لا مكان لفيروز، كلّ المكان هو لفيروز وحدها، ليكن للعلماء علم بالصوت
وللخبراء معرفة، و ليقولوا عني الجيِّد و العاطل، أنا أركع أمام صوتها كالجائع أمام
اللقمة، أحبه في جوعي حتى الشبع، و في شبعي أحبه حتى الجوع، أضم يديّ كالمصلّين
وأناديكَ: إحفظْها! إحفظها!
تغنّي لنا الأسرار التي جهلناها، و الأحلام التي نسيناها، تغنّي و صوتها مكشوف
كاليد المفتوحة، وتغنّي و صوتها محجّب كوجه خفضه العذاب و الخفر إلى رجاء الأرض،
حتى لو لم يُكتب لها شعر جميل، فإن صوتها كفيل أن يجعل أي كلام شعراً جميلاً، حتى
لو لم يكن اللحن رائعاً، فإن صوتها كفيل أن يجعل أي لحن رائعاً، لأن صوتها هو الشعر،
و الموسيقى، و .. الصوت، لأن صوتها هو الأكثر من الشعر و الموسيقى و الصوت، صوتها و
تمثيلها و حضورها، إن في وجودها إشعاعاً يبهر كالبرق، و يستولي على الناظر إليها
كما يستولي الكنز على المسافر، صوتها الذي أسمعه فكأنه هو الذي يسمعني، بل كأنه
أحسن من يصغي إليّ و أنا أصغي إليه، صوتها الساقط فينا كالشهيد، المُخمِد حولنا
العواصف، المُلهب فينا غرائز البراءة و الوحشية، صوتها كمصابيح في المذبح، و كزهرة
جديدة حمراء في حديقة قديمة، لا صوتها في سمعنا فحسب، بل إلى الأمام من حياتنا،
صوتها المنوِّر، الذي تنويره كتنوير الصليب، لنتوقف و نقدّم لفيروز الشكر في جميع
العالم، لأن صوتها راعي الرعشة، لأنه هو الرعشة، وهو نار الحب الأخيرة الممشوقة
كعروس فوق الماء.
أقول «صوت فيروز» وأقصد «فيروز»، تلك المرأة اللامحدودة العطايا، التي ليس لجمالها
نهاية، كلها بكاملها، متحرّكة وجامدة، كلها، بأصغر تفاصيلها، إني لا أعرف فناً
غيرها، و أحبها بإرهاب، أي بالشكل الحقيقي الوحيد للحب، إن صوتها هو عصرنا، ولصوتها
سبعون نافذة مفتوحة على الصباح، للصرخة إذا خفضناها قليلاً قوّة أشدّ، هكذا صوتها
عندما لا يتفجّر كله، وحين يتفجّر كله يصبح الكون بعده جميلاً كغصن شجرة حرقته
صاعقة، وما زال أمام صوتها وأمام عبقريته جميع الفرص.
يُقال أحياناً : «فيروز!! نعرف، نعرف» ... ماذا نعرف؟ تقريباً لا شيء، لنسمع صوتها
جيّداً ولننظر إليها بعيون نقيّة، عندئذٍ نعرف أنها في كل مرة تبدأ الآن، فهي في كل
مرة نضرة كرنّة الثلج في الكأس، ومع هذا فما تخبئه هو أغنى مما أباحته، ليتني
أستطيع أن ألمس صوتها، أن أحاصره و ألتقطه كعصفور، كأيقونة، أن أكتنفه و أشربه و
أكونه، أن أصير هو، أن لا يعود يحبس أنفاسي كلّما سمعته وكلّما تذكرته و كلّما
نسيته، ليتني أستطيع أن أضمّه على صدري فيصبح لي و أرى أسراره، و لا يعود ممكناً
انتزاعه مني و لا بالموت، أن ما يحدث لي تجاه صوتها ليس فعل السحر، أنه اجتياح، إنه
فعل الإتحاد التام، عندما أسمعها أصبح إنساناً ناقصاً صوته، أصبح بصوتها، إنها
الجمال الذي ضاع منذ الخليقة، وعندما تسكت فبوحشية يصير المسرح تحت سكوتها مقاطعة
تتنفس الحنين إليها، ثم تصرخ عطشى إلى كلام فيروز، كم سكوتها مؤلم!! إنه يأخذ
الأسرار التي إن لم تقلها لنا تختنق، هل هي تفرح بعذابنا أمام سكوتها؟ وها هي تقطع
الصمت، ها هو وجودها يغضب كالضوء، يموج كالبجع الأبيض، يرقّ كنداء العينين، وتبكي و
تضحك بلا بكاء و لا ضحك، و تملأ الدنيا بقليل منها، لأن القليل منها أكثر من
السعادة.
هذه التي تشعل المسرح هي أيضاً تشعشع لنا الحياة، و المسرح ليس حيث المسرح فحسب،
المسرح هو أيضاً قلوبنا، بعلبك و الأرز و دمشق و بيت الدين و قصر البيكاديللي و كل
مكان يأتي منه صوتها، جعلتها فيروز أوطاناً لنا، إحفظها! إحفظها! فيها خطر يجذب
كالبحر، ألا تعرف ما الذي يأخذك في صوتها؟ هو الجبل الذي هو هاوية، والنسيم الذي هو
عاصفة، صوتها مثل مركب شراعي يمضي في وجه النوّ، فيتوجّع ويتمزّق، حتى يغلب بعناده
جنون الطقس، فتسجد فوضى الكون أمامه منهوكة كالرجل على صدر حبيبته، مرآة الشوق،
مرآة الحنان والحنين، مرآة الحب، مرآة الجرح و الصدق، و أكبر مرآة للحزن والشهيّة،
لو كان صوتها صليباً لحملته، و لو كان بحراً لأشعلته، لكنه أعظم من ذلك، إنه الجمال،
و أي هدف أعظم من الجمال يقدر الإنسان أن يعيش له؟ لو قلت أن فيروز هي الوحيدة لما
قلت شيئاً، لو قلت أنها كل شيء، لما قلت شيئاً، و لو قلت أني مهما قلت سأبقى عاجزاً
عن القول، لما قلت شيئاً، في حياتنا لا مكان لفيروز، كلّ المكان هو لفيروز وحدها،
في حياتي لا مكان لفيروز، إن فيروز حياتي.