من ملاحم حرب الهوية
رامز رباح - 14\02\2012
ألطقس كان بارداً والسماء صافية والنجوم تزين قبة هذا السقف الرفيع، والقمر يطل من
فوق قلعة النمرود ليرسل أنواره إلى أسفل ذلك الوادي المعتم المخيف، وخيال أشجار
السنديان والزعرور والمل والغار والزيتون تنام على الصخور والأعشاب فتراها بأشكال
مختلفة، والدخان يصعد بهدوء وكبرياء إلى أعلى السماء من موقدة الحطب التي خف لهيبها
بعد أن نزل إبريق الشاي عن ظهرها المعوج.
ولا صوت في المكان سوى صوت الشفاه للأخوة الثلاثة الصغار وهم يشربون الشاي الساخن
بشغف وحذر لئلا يلسعهم هذا المشروب اللذيذ الشديد السخونة، والممتزج بدخان الموقدة
المشتعلة من حطب السنديان والزيتون الذي يبقى جمره صامداً لصبيحة اليوم التالي.
وبعد قليل يبدأ طير غريب يرسل صوتاً عجيباً من الشيار المرتفع بجانب وادي القلعة -
حيث كان الإخوة الثلاثة الذين تبلغ أعمارهم بين الثانية عشرة والسابعة عشرة ينامون
هناك بجانب قطيع الماعز الذي يرعونه في النهار ويأنسون به في الليل كل فترة الحصار
للقرى السورية الأربعة في بداية العقد التاسع من القرن الماضي. هذا القطيع الذي كان
يشكل مصدر رزق أساسي لعائلة سورية تسكن في بلدة مجدل شمس مكونة من إحدَ عشر نفساً،
أصرت على التمسك بهويتها العربية السورية ورفضت رفضاً قاطعاً بفرض الجنسية
الإسرائيلية عليها بالقوة، مثلها مثل كل أحرار الجولان العربي السوري المحتل. ليصبح
هذا الوادي المقطوع الموحش مكاناً مأهولاً يباتون ويأنسون فيه هؤلاء الفتية...
فسعادة الشعور بصدق الانتماء أنستهم الغربة وفرقة الأهل والأحباء.
ولا شيء يربطهم بالعالم الخارجي سوى مذياع صغير يسمعون بواسطته نشرات الأخبار
ليطمئنوا عن حالة الغليان التي كانت تسود قرى مجدل شمس وبقعاثا ومسعده وعين قنيه،
ولا وسيلة نقل معهم سوى حمارهم الأسود الذي كان يمتطيه أحدهم تحت جنح الظلام عند
نفاذ المؤن الأساسية ويسلك طريق الجبل الوعرة ليدخل المجدل خفية وبحذر شديد لئلا
يراه جنود الاحتلال المحاصرون للبلدة من كل الاتجاهات فلا يتورعون عن اعتقاله
ومصادرة حماره، وسرعان ما يعود ليجلب معه الأخبار الطيبة عن الأهل المحاصرين،
والمواد الغذائية الأساسية، ونصائح والدهم الشيخ الذي مُنِعَ الخروج من البلدة بسبب
هذا الحصار الظالم ، وأشواق أمهم الحزينة المريضة الباكية على فراق أولادها الثلاثة،
وسلامات متفرقة من الأخوة والأخوات والأصدقاء.
يتابع الطير إصدار أنغامه الغريبة التي تلائم غربة الأخوة المستوحشين، ويبدأ الهمس
بينهم ولكن سرعان ما تشتد المأساة عليهم وتسوَّد الدنيا بوجوههم بعد أن فتحوا
مذياعهم الصغير لعلهم يسمعون أخباراً عن أهلهم بعد يوم طويل من التعب، وبعد أن
اطمئنوا على قطيعهم داخل المغارة وتناولوا ما تيسر من الطعام وشربوا مشروبهم المفضل
الذي تعودوا عليه، ليتفاجأوا بخبرٍ في الإذاعة الإسرائيلية وقع عليهم كالصاعقة
مفاده أن وجهاء الجولان قد استلموا الهوية الإسرائيلية وحُسمت المعركة لصالح العدو.
فضاق بهم الوادي وأخذوا يولولون على هذه المصيبة ويتحسرون على عدم وجودهم في البلدة
ليمنعوا أهلهم من استلام الهوية، وينالوا شرف الدفاع عن جنسيتهم العربية السورية.
فطالت هذه الليلة عليهم واسودت السماء رغم ضوء القمر المنير.
والذي زاد الوضع قسوة وصعوبة مرور طائرات عاموديه فوق الوادي تحلّق على ارتفاع
منخفض وترسل أنواراً حمراء أضاءت المكان عدا عن صوت هديرها القوي المزعج، فظنوا
بأنها تبحث عنهم لتسلبهم جنسيتهم العربية السورية الغالية على أرواحهم، فأطفأوا
الموقدة وأخذوا يختبئون تحت أشجار السنديان والغار ويهيئون عصيّهم وبلطاتهم لخوض
معركة بالسلاح الأبيض مع جنود الاحتلال تحت شعار "المنية ولا الهوية".
أمضوا ليلتهم في شدة وصعوبة وقلق وارتقاب، وما إن بزغ الصباح الذي طال انتظاره حتى
فوجئوا بحضور والدهم الشيخ للمرة الأولى منذ بدء الحصار إلى الوادي بطلته البهية
وعمامته البيضاء الناصعة التي تشع طهراً ونوراً ليطمئن فتيانه الصغار بأن الأخبار
كانت كاذبة وأنَّ الأهل في الجولان ما زالوا على صمودهم وتمسكهم بمواقفهم المشرفة
الثابتة، وأنَّ الهويات الإسرائيلية مرمية في الشوارع والساحات يدوسون عليها
بأرجلهم، وأن جنود الاحتلال انسحبوا خاسئين أمام إرادة وعزيمة شرفاء الجولان.
وقال الشيخ لأولاده بعد أن عانقهم:"لعل سر توفيقنا بهذه المعركة رغم كثرة الجنود
التي كانت بالآلاف هو محبتنا لبعضنا ووقوفنا وقوف المدافع عن أنفسنا وكرامتنا، فنحن
قومٌ لا نعادي ولا نعتدي ولكننا ندافع وننتصر، ونحارب جيوش الأرض إذا ركبت رأسها
دفاعاً عن ثالوثنا الذهبي المقدس -الدين والأرض والعرض، وثقافتنا الوطنية أصيلة
ثابتة لا تتزحزح ولا تتغير لأنها نابعة من صلب العقيدة وصدق الانتماء... وإياكم يا
صغاري أن تبيعوا أرضكم العربية أوتفرطوا بهويتكم السورية".
فصرخ الثلاثة بصوت واحد صرخة ردد صداها الوادي السحيق:
ستبقى أرضنا وجنسيتنا إلى الأبد عربية سورية - عربية سورية - عربية سورية..