«حكللّي لحكلك».. قصة شبه حقيقية
فاضل فخر الدين – 16\02\2012
ذات ليلة من ليالي صيف دالاس الحارة جلسنا في الحديقة الخلفية بجانب المسبح في بيت
محمد وهو موظف أمن يعمل مع الحكومة الأمريكية أصله من مدينة حمص. كان التلفزيون في
الداخل ينقل صور الثورات العربية، كنا زوجتي وأنا وأسرتين من لبنان واسرة من فلسطين
وصديقنا جرجس القبطي الذي قدم من الاسكندرية ويملك محطة بنزين يعمل بها مع دينا
زوجته الأرمنية من حلب.
تنوعت طوائفنا بين المسلم والمسيحي الماروني والقبطي والدرزي وتنوعت بلداننا
وجنسياتنا. وجمعت بيننا مأكولات مشتركة ولغة هجينة بين العربية (بلهجاتها المصرية
واللبنانية والسورية) وبين الانجليزية (بلهجاتها المصرية واللبنانية والسورية).
سرد لنا محمد قصته عندما قدم لأمريكا شاباً يافعاً ولم يكفه ما معه من مال لإكمال
تعليمه، فاضطر للتطوع بالجيش ليصبح بعد مدة موظف أمن عمل مع القوات الامريكية في
الكثير من الدول العربية، لم يخفِ محمد إعجابه بالنظام الأمريكي والخدمة والمؤسسات
والديموقراطية، وسرد لنا قصص لم نعرف مدى صحتها عن مدى نفوذه وقدراته في المنصب
الذي وصل إليه.
تناوبنا أطراف الحديث عن كل ما نعرف وما لا نعرف من أحداث المنطقة العربية إلى
سياسات أمريكا وثورات الربيع العربي ودول الخليج واسرائيل والفلسطينيين "والعملية
السلمية" والاستيطان. ومن حالة الطقس والاحتباس الحراري وحركة البورصة وديون أمريكا
واقتصاد الصين إلى ذري كوريا وايران.
قال محمد: الثورة المصرية لم تكن مفاجئة وبحكم منصبي أعلم أن الأيدي الأمريكية
منغمسة فيها منذ البداية، الأخوان المسلمين نفوذهم واضح رغم انهم لم يشتركوا
بالثورة. الثورات سببها الفساد والمحسوبيات والرشوة. كيف بدك ما يثور السوريين وقد
استولى المستبدون على ثرواتهم. يجلس الحاكم على الكرسي ثلاثة وأربعة عقود ويسلّم
مناصب البلد وثرواته نهباً بأيدي المقربين فيعيثون بالبلاد والعباد فساداً.
رد عليه جرجس : هو انت فاكر مصر أحسن، دول هرونا فساد ومحسوبيات ومبيدات مسرطنة
وتطرف ديني وعمارات بتوقع على روس صحابها وكنايس بتتفجّر. ده أحمد عز طولو شبرين
وشوية بلع حديد مصر كله... يا راجل.
بعد أن شربنا العصير، كانت الجماهير العربية الغاضبة تصيح على شاشة الجزيرة "الشعب
يريد تغيير النظام". انبرى عادل -وقد كان مقرفصأ بجانب حوض النعنع- قائلاً: يا
أخوان، قوانين الدول الغربية تحاسب المسؤول وتجرده من منصبه وقد يتعرض للمحاكمة
بحكم منصبه حتى لو يكن السبب وراء كارثة ما. يستقيل وزير مواصلات في بلد أوروبي
عندما يحيد قطار عن سكة الحديد ويتسبب ببعض الخدوش والخسائر البسيطة. بينما يحترق
قطار في بلداننا وتبقى أجساد الركاب المتفحمة ساعات في وضعيتها الأخيرة في محاولة
الخروج الفاشلة من النوافذ، دون ان تقام لجنة تحقيق أو يرف جفن لمسؤول؟
فرك عادل بين كفيه باقة عطرة من الروزميري (إكليل الجبل) وأكمل قائلاً: ألا تعتقدون
أن احترام القانون هو أخلاق وعادات وتربية تبدأ من البيت، ثم تصعد من أسفل إلى أعلى
في هرم المسئولية... وليس بالعكس؟
لماذا تكثر في أمثالنا الشعبية مقولات "النبي قبل الهدية" و"حك لي لحك لك"؟
لماذا لا يفرق تاريخنا بين المال الخاص والعام ولماذا يزخر تراثنا بقصص شاعر البلاط
يمتدح الأمير ببيتين من الشعر فيغدق عليه بضعة آلاف من الدنانير من بيت المال.
القضية هي سؤال من وجد أولاً البيضة أم الدجاجة؟..
السؤال ليس "لماذا يقبل الشرطي أن أرشيه وهو ينفذ القانون"، بل السؤال "لماذا أحاول
أنا رشوته بدل أن أدفع مخالفة السير وأحترم القانون الذي أعرف أنه يسري على الجميع"؟
ثم أكمل قائلا: تصيح الجماهير في المظاهرة "الشعب يريد إسقاط النظام" بينما في
الحقيقة يجب أن يتغير الشعب أولا وعندها سوف يتغير النظام. ما الفرق الذي يحصل لو
تغير النظام وبقي الشعب على حاله، ألن يفرز هذا الشعب عاجلا أم آجلا نفس هذا الفساد
وذاك النظام؟
لم يوافق محمد على كلام عادل، نفث دخان سيجارته وقال: كلامك غير صحيح يا صاحبي،
مسئولية النظام هي تربية الشعب على احترام القانون بأن ينفذه أولا على الكبير قبل
الصغير..ومسئوليته أن يقضي على المرتشين في أعلى قمة الهرم فيصلح حال القاعدة
بالضرورة... المثل يقول "السمكة تفسد من الرأس".
انظر الينا هنا، نحن نفس العرب هناك وولدنا هناك. لماذا نحترم القانون هنا؟
على الطاولة المجاورة كانت دينا زوجة جرجس تسرد لزوجة محمد قصة رحلتها إلى سوريا
عندما احتاجت إخراج وثيقة من أحدى الجهات الرسمية. قالت : لم يكن لدي وقت للروتين
والإجراءات فتذكرة العودة لأمريكا بعد أسبوع ... وضعت ورقة مئة دولار داخل أوراق
الملف وأعطيتها للآذن، هل تعرفين أن أي آذن أو فرّاش يوزع القهوة والشاي للموظفين
في أية إدارة حكومية عربية يخدمك أكثر من أكبر موظف، ويعرف زواريب لا يعرفها أحد؟
ما المانع أن أفيد وأستفيد؟ لا أفعلها هنا في أمريكا "لأنو السيستم هيك . بس هنيك
الكل بيعمل هيك والمثل بيقول حط راسك بين الروس".
قال عماد اللبناني: ما باعتقد إن "الكور رابشن" بيدخل في تشكيلة جينات العربي عنوة
عن باقي خلق الله، المثل بيقول "الناس على دين ملوكهم"، اذا كان النظام فاسداً
فسينتج شخصاً فاسداً، واذا كان الأب مرتشياً فسيكون الإبن مرتشياً، انظر إلى نظام
المحاصصة الطائفي التي يسمى ديموقراطية عنا بلبنان، أليس "ابن المير.. مير"؟
وبالمقابل انظر هنا في أمريكا هل بنت كلنتون ورثت الحزب الديموقراطي عن والدها كما
يحصل مع بكواتنا؟
قال محمد: صدقت. العربي هنا في أمريكا يتصرف مثله مثل الأمريكي، الكل متساوون أمام
القانون لأنه يعرف أن النظام المؤسساتي لا يفرق بين المسؤول وبين شخص من عامة الشعب،
جواز السفر يأتيك بعد ستة أسابيع إلى صندوق البريد "مثل الساعة" دون أن ترشي موظفاً
أو تتملق صاحب منصب.
ثم نظر محمد إلى الجميع وقال: لقد سرقنا الحديث، تفضلوا على العشاء.
مضت نصف ساعة أو أكثر، أكلنا وتمشينا قليلاً ثم عدنا ببطء كل إلى كرسيه في الحديقة
ونسينا الرشوة والفساد والمحسوبية وجلسنا نشرب القهوة وكل فرقة تتحدث في امورها
العائلية وشؤونها الخاصة.
قال محمد صاحب البيت موجهاً حديثه لجرجس صاحب محطة الوقود:
أعلم انك توسع المحطة وتبني إضافات من خلفها فإذا أردت أية مساعدة في البلدية بخصوص
الرخص أو ما شابه.. فاتصل بي ولا تتردد. بتعرف محسوبك "واصل".
رد عليه جرجس: تسلم حبيبي عارف انك قَدَها وقدود، وانتَ كمان، ابقى نفعنا. انتَ
عارف اننا بنعمل "ستيت انسبكشن" للعربيات (يعني ترخيص سنوي) عندي في المحطة. ابقى
جيب العربيَة بتاعتك وانا ابقى اعملك تخفيض يا سيدي.. مش أحسن ما تنفع أمريكاني؟
قالت زوجة عماد: ايوة هيك، شو يعني بس ولاد اعمامنا ما بتلاقيهم غير ضابين عبعضهن
البعض؟ "خلو كعكنا بعجيننا" يا عمي.
قال محمد: لا.. مو تخفيض. انا معاوز شي تاني. عندي هالسيارة موديل الاربعة وسبعين.
وكثير متعلق فيها رغم انه عندي اللي احسن وأغلى منها. بس المشكلة انها من خمس سنين
ما عم تمرق فحص دخان. بيقولوا انها ما بتتصلّح.. بس أكيد فيها شغلة بسيطة وأنا
مكسّل، ما جاي عبالي صلحها.
بس وينك ... بتمشي متل العروس وما بها شي. بتعرف الاميركان.... يعني تقول الواحد
فيهم موكّل ع نظافة البيئة ولاّ مسئول عن صحة دب الباندا. يعني رغم ان الماتور
بيدور متل الحلاوة بس راسو وألف صرماية ولا أمريكاني كان يمرقها "تست".
ردت زوجة محمد قائلة، هم الامريكان انبيا يعني، شوف السرقة والفساد اللي عملوها
بالعراق.
قال جرجس كلهم فاسدين بس اذا الواحد منهم اتمسك وحبسوه ولا حد يعود ينفعو ولو شرب
البحر. ثم أكمل هامساً لمحمد: ولا يهمك. عندي واحد بيعجبك، بس هو غالي شوية. مية
وعشرين دولار ويزبطها لك بس خليني الأول اسأله أيمتى فاضي وابقى اقوللك ايمتى تجيب
العربية.
قفز عادل من مقعده وقد سمع ما دار بين محمد وجرجس وصرخ : يا حبيبي... وبتحكوا لي عن
السمك والكعك بعجين، يعني يا محمد وجرجس لو سمعك حدا هون ما كانوا عملوا مظاهرة
وصاحوا فيها "النظام الامريكي يريد تغيير العرب"؟.
ملاحظة: لا تقبل التعقيبات على هذه المادة بناء على طلب الكاتب