لقاء مع الشاعر «المعتقل» ياسر خنجر
*أجرى اللقاء: نبيه عويدات - 09\03\2012
خاص لموقع جولاني
لا يزال الشاعر الجولاني ياسر خنجر رهن الحبس المنزلي، بعد تسعة أشهر من اعتقاله لمشاركته في أحداث ذكرى النكسة، التي وقعت في مجدل شمس في جزيران 2011. وبعد ثلاثة أشهر من الاعتقال الفعلي، وستة أشهر إضافية قضاها في الحبس المنزلي في المنفى، بقرار من المحكمة الإسرائيلية، سمح له الأسبوع الماضي بالعودة إلى بيته في مجدل شمس. عودته كانت مشروطة ببقائه رهن الحبس المنزلي، إلى أن تقرر المحكمة مصيره.
موقع جولاني التقى الشاعر المعتقل ياسر خنجر
صباح اليوم، ووجه له مجموعة أسئلة:
ماذا تقول عما حدث في 5 حزيران وأنت المعروف عنك أنك
إنسان مسالم وشاعر؟
ما حدث يوم 5 حزيران لم يكن افتعالاً للعنف من قِبَلِنا، وليس بأي حال
اعتداء على قوات الأمن الإسرائيلية كما صَوّره الإعلام الإسرائيلي، وتبَنت النيابة
العامة رواية الإعلام.
كان يوماً مشحوناً منذ ساعاته الأولى، رؤية القناصة يصطادون العائدين كالعصافير...جرحى
يصرخون من هول الألم... وفيض الدم الذي يغل في التراب...المسعفون يستعينون بالنشطاء
لحمل مصاب أو شهيد... أناسٌ يمشون إلى بيوتهم التي هُجّروا منها فيغرقهم الموت
ويمنعهم الرصاص من مواصلة السير.
البشريّ بحاجة للتنازل عن كامل إنسانيته من أجل مشاهدة هذا الاغتيال دون ردة فعل.
إن وصمة عار كانت لتصيب الجولان السوري المحتل وبنيته النضالية لو سجل التاريخ أن
أكثر من 20 شهيداً سقطوا على مرأى من أبناء الجولان المتفرجين على مجزرة وذبح يتم
على أرض الجولان. وهنا أتوجه بالعتب -والعتب على قدر المحبة- إلى المؤسسة الدينية
في الجولان التي لو أنها تعاملت مع الحدث برؤية أوسع قليلاً من الذاتية التي
مارسوها طيلة ذلك اليوم، فربما تغير شيء. كلنا نعرف دورهم المحوري في يوم العبور 15
أيار، وكيف كان لهم الفضل الأكبر في إيجاد حل يختصر على العابرين مأساة مفترضة
ويحافظ على نقاء اسم الجولان وأهله. أظن أن كان عليهم أخذ دور فاعل بدل الاكتفاء
بالمشاهدة.
صورة الحدث حتى دقائق قليلة قبل الاشتباك مع قوات الأمن كانت وكأن أهل الجولان
يقفون خلف القناصة المطمئنين لوجودنا.
الناس الطيبون الذين وصلوا إلى منطقة عين التينة وعادوا منها إما شهداء أو خائبين،
هم ضحايا زُجّ بهم إلى نفق مسدود من أجل رسائل سياسية ليست نقية المقصد، ولكنها
حدثت على بعد أمتار من بيوتنا ففرضت علينا.
السلمية ليست شكلاً للخنوع ولكنها طريقة رفض، الحجر الذي رميته لم يجرح أحداً،
ولكنه ربما أنقذ إنسان ما من الرصاصة التالية، وأفترض أن هذا بيت القصيد في الشعر.
لست من هواة العنف وأرفضه حتى كلاماً، ولكن لو استطاعت القصائد أن تمنع موتاً مفترض،
أليست تلك أسمى غاياتها.
ما هي تبعات هذه المرحلة التي فرضت عليك؟
أصدقائي في هذا الملف وأنا كنا وما زلنا مستعدين لدفع أي ثمن من أجل
مبادئنا التي نؤمن بها. نتحملها جميعنا إضافة إلى العبء المعيشي والحرمان من مواصلة
العيش ضمن بيئتنا الاجتماعية. صديقي محمود محمود وهو مبعد ورهن الحبس المنزلي يتعرض
إلى حملة بشعة تهدد مستقبله المهني كطبيب. صديقي وجدي فرحات اضطر إلى تأجيل زفافه.
ولكل واحد من الأصدقاء حكاية.
أما أنا فكان من المفروض أن أنهي دراستي الجامعية هذه السنة، وأن أسافر بعدها
مباشرة إلى ألمانيا لمتابعة التعليم والحصول على شهادة الدكتوراة بعد أن استلمت
منحة تعليمية من جامعة هايدلبرغ. تأخرت عاماً حتى الآن ولا أعرف كم سأتأخر بعد.
أضيف إلى كل ذلك أن أهلنا وأصدقاءنا يتقاسمون معنا بعض الحمل وأحياناً يكونون هم من
يحمل الجزء الأكبر والأصعب، نحن ندفع ثمن ما قمنا به، وهم يدفعون ثمن حبهم لنا
وإيمانهم بعدالة قضيتنا.
أصدقاؤنا اعتصموا في 13 تموز ضد الاعتقالات التعسفية وضد الاحتلال وكان من المؤسف
انكفاء الكثيرين عن المشاركة في نشاط كانت شعاراته وأهدافه وطنية صرفة، ولكن يبدو
أن التآكل في فهم عمق الصراع مع الاحتلال واختصار الحالة الوطنية إلى شعارات
وولاءات شخصية يطغى على كثير من المواقف.
لا أستطيع أن أقول عما ندفعه ثمناً باهظاً، خاصة إذا تذكرنا أن آخرين دفعوا حياتهم
ثمناً للمبادئ التي آمنوا بها، وآخرين ما زالوا في السجون منذ عشرات السنين،وغيرهم
تم اختطافهم ولا أحد يعرف عنهم شيئاً، كل هذا لا لشيء غير أنهم آمنوا بما لا تؤمن
به السلطة الحاكمة المغتصبة.
البعض يعتبر أن عقابكم كان مبا
أعتقد أن الاحتلال لا يوفر فرصة من أجل النيل من موقف أهل الجولان، دائماً كانت لدولة الاحتلال مشاريع مبيتة للجولان وأهله، وفي هذا السياق أنا أنظر إلى الأحكام التي صدرت بحق من وُجهت لهم تهمة المشاركة في أحداث يوم النكسة على أنها أحكام جائرة تهدف إلى ردع شباب الجولان ورسالة مفادها أن الاحتلال لن يسمح بفشل مخططاته، لقد كانت المشاركة الكبيرة من شباب الجولان في ذلك اليوم مؤشراً قوياً على استمرار الجولانيين بتمسكهم بهويتهم السورية وانتمائهم القوي إلى تاريخ الجولان النضالي، هذا بالإضافة إلى أن الدولة الإسرائيلية تعاملت بقسوة مفرطة -لم ولا نتوقع غيرها- من منطلق أن حجارة شباب الجولان استهدفت الجيش الإسرائيلي وليس الشرطة الإسرائيلية.
هنالك نوع من التقديس لدى الإسرائيليين لجيشهم بوصفه حامٍ للدولة، ويعتبروننا مسسنا بهذا المقدس. من هنا يحاولون تبرير أحكامهم الرادعة.
تم اعتقال أكثر من 35 شاباً من الجولان على خلفية هذا الحدث، وُجِّهت لوائح اتهام ل 16 منهم. النيابة العامة تحاول تصعيد هذا الملف، الأمر فرض على المحامين اتباع كل الوسائل التي تخفف من الأحكام كي لا تصير سابقة قضائية وهنا أتوجه بالتحية لهم.
ما هو إنتاجك الشعري خلال هذه المرحلة؟
عادةً لا أكتب عن شيء وأنا في قلبهِ. لا أكتب شعراً عن شيء أعيشه الآن لأني أعتقد أن الشعر يحتاج إلى صورة واضحة، وطالما أنا مأخوذ بالحدث سأتابعه إلى آخره، وأحفظ إحساسي به، ثم في لحظة صفاء ذهنيّ تأتي القصيدة.
خلال الأشهر السابقة كتبت العديد من القصائد معظمها لا يحاكي أحداث النكسة أو تجربة الحبس والإقامة الجبرية، بل ينسجم مع ما يشغلني من هواجس وبشكل خاص هواجسي تجاه الثورة السورية وما يتعرض له السوريون من قتل.
هذه إحدى القصائد التي كتبتها خلال هذه الفترة،
وهي بعنوان "بوصلة":
بوصلة
ثَمَّةَ بوصَلَةٌ لا بُدَّ صائِبةٌ:
يَقينكَ أنَّ الفُتاتَ على العتباتِ
شِراكٌ - مُمَوّهَةً أَو صَريحَةَ - مُحكَمَةَ القَصدِ،
فالصيدُ أنتَ.
تَنَبّه لوقعِ خُطاكَ ولا تُصغِ للريحِ
أو تمتماتَ العجائِزِ.
طريقُكَ موغِلَةٌ بالغِوايَةِ
وَهمُ النِصالِ يُمَرِّغُ حُلمَكَ بالدم،
يَثقبُ نَعلَ القَداسَةِ؛
وَوَهمُ التكاسُلِ يُرجِعُ حُلمَكَ لِلتيهِ،
يا صاحبي، فانتَقِ للنِهايةِ وَشماً
يليقُ بمئذَنَة القلب،
كي لا تَخونَ رفاقاً
تَعَجَّلَهُم سيفُ خصمِكَ
فانفَطَرَ الوَحيُ. يا صاحبي،
هدنةٌ تَبغَتُ القَلبَ كافيةٌ
كي تؤَرِّخَ ما عاشَ مِن أَجلِهِ الشُّهداءُ،
وتختارَ نبضاً شديدَ النقاءِ
كأَعيُنِهِم، وهُم ذاهِبونَ إلى آخِرِ القافية؛
لا نَشازَ يُعَكِّرُ صَفوَ اليَقينِ.
طَريقُكَ موغِلَةٌ بالغِوايَةِ
لا الريحُ دَليلٌ،
ولا التَّمتَماتُ على وَقعِها تَهتَدي؛
وَحدَهُ القَلبُ لا يَغفِرُ الانهِزامَ
ولا يَنتَشي في ضَجيجِ الحِرابِ
ثَمَّةَ بوصَلَةٌ لا بُدَّ صائِبَةٌ
هَل وَقَفتَ على نَبضِ قَلبِكَ.
________________________________________
* ياسر خنجر: شاعر جولاني. قضى سبعة أعوام ونصف في المعتقل الإسرائيلي (1997-2004) بتهمة مقاومة الاحتلال. يدرس اللغات القديمة في الجامعة العبرية في القدس، ويستعد لمتابعة الدكتوراة في جامعة هايدل بيرغ في المانيا في "لغات وحضارات الشرق القديم".