قصر بنت الملك
نبيه الحلبي - 12\04\2012
.... تسعيني كان يسير معنا , باكوره يسبقه بخطوة,اوقفنا فجأة أمام سلسلة حجرية
مقصبة ومرصوفة بإتقان , ليبلغنا بأنها "ربعة رومانية " تابعة للقصر الذي يعتلي كتف
مجدل شمس الغربي . انتابتني حالة قلق للحظة , ونظرت الى الشرق البعيد لأرى الحفار "
البايكر" الذي يعمل بشق الطريق والمتجه غربا صوب هذه السلسلة التي يجب ألا تمس ,
لتبقى معلما اثريا يضاف لكنوز البلدة التاريخية.
وكان لا بد لنا من التقاط انفاس الراحة واختيار بقعة خضراء نجلس عليها , والبعض فضل
الاتكاء على الصخر الذي كنا نتقافز فوقه للوصول الى قصر بنت الملك . وحاولت ان احكي
للذين برفقتي بأن ها هناك كانوا وقبل آلاف الاعوام , يجلسون ويقصبون الحجر المقلوع
من الصخر الصوان , وها هي اثارهم بالحجارة المفلطحة المسننة تركوها خلفهم .ونحن نمر
على ربى حرمون من جنبها وندوسها دون ان ندرك سرها , وتلك الاحاديث التي كانوا
يتناقلونها اثناء عملهم بالمقالع والتحجير.
أحدنا , لم يتذمر من عديد الاسئلة التي انهالت عليه ,تسأله عن تاريخ المنطقة , لا
بل استحسن أن يروي وبشغف ما درسه عن الحضارات التي مرت على جبل الشيخ وتركت لنا من
بقاياها اثار من حجر تروي لنا حكاياها .
من هنا مروا. حيث نحن نمشي . وأسال نفسي..يجمعنا بهم ذات المكان لكن بزمنين . أفلا
تجمعنا الذاكرة ؟ وكيف يطوي النسيان قصص الحب والقتال وبقايا الصخر تفضح من عاشوها
نقذف أحيانا بأقدامنا حجرا , نقلبه , وقد كان يوما بيد بيزنطي أو فينيقي بنى به
بيتا حماه من ثلج حرمون..
هنا نحن , نرث أرضا من صخر أزرق وتراب , نمر فوقها عابرين كما عبروا ..كبرياؤنا
الضحل فقط , يخدعنا ويوهمنا بأننا باقون للأبد .ولن يمر من بعدنا على صخر حرون
غيرنا من البشر.
نقترب أكثر من بركة مرج المن والسهل الاخضر الذي يلفها ... وبقايا قصر بنت الملك
تلهم رفيقنا قارئ التاريخ , فيتحمس , ويفيض منه الكلام ... فذاك بقايا حائط .وهناك
عامود الباب , وتلك بئر لجمع ماء الثلج .وبقايا جرار الدبس .وجاروشة قمح ..ويتراءى
في مخيلتنا القصر البهي الساحر . ومن ركامه تنبثق الصورة التي تشبهه .. ولا يحتاج
المشهد ليكتمل سوى لشخص يجمع بخياله الفن وعلم الهندسة ليرسمه من جديد.
نتبعه والابتسامة تعلو وجهه , هناك قبر بنت الملك . وهي ما زالت مدفونة فيه ....
أهو يمزح... مشينا صوب القبر وفي مخيلتنا بقايا عظام بشرية مبعثرة بين الركام...وهذا
ما لم نجده طبعا... يعتلي صخرة محفورة كأنبوب ضخم يقيسها بثلاث خطوات , وبارتفاع
خطوة , ويقول ربما كان هذا عامود لم يكتمل , او انهار بفعل زلزال , لكن تقول
الاسطورة أن بنت الملك صنعت لنفسها قبرا من صخر ليس له باب ولا مفتاح ..تخرج منه
مرة في العام ..ولن يفتحه سوى حبيبها الذي غيبه بحر صور ..
عدنا...وامتد ظل قامتها عند المغيب حتى وصل خيمة مشروع الوقف .رافقتنا نظراتها
بمشيتنا شرقا نحو الخيمة ,, أفاقها همسنا من حول قبرها الحجري ونقر اصابعنا على
قبرها الصخري الرنان .لأن صديقنا اقنعنا بأن الصخرة التي بقلبها الاميرة فارغ .
فانقروا عليها لتسمعوا رنة الفراغ ,,,,,
وقفت بهية ممشوقة فوق اطلال قصرها تتفحص زوارها الجدد . لم يجلبوا الجرار لملئ
مغطسها الصخري بالماء حيث كانت تستحم , ولم يضعوا صابونة زيت جديدة موضع صابونتها
..من هم ؟ ماذا كانوا يفعلون بقصري ؟؟
أشاحت بعينيها الساحرتين ملتفتة نحو الغرب . وجعلت من كفها مظلة تحميهما من ضوء شمس
المغيب .كادت الاخيرة أن تغطس في بحر صور .. ولم يظهر بعد بحارها وفارسها ..انتظرته
طويلا وستبقى . وهو الذي اختارته دون الملوك والأمراء الذين تقدموا للزواج منها .
كان يبيع سمك بحر روما , ومداه الشرق , يجول تارة على حصانه وطورا في مركبه الأرزي.
جعلت منه أميرة حرمون وحيدا مدى عمره. لم يتزوج .. بعدما سحرته بفتنتها . وأحب من
دون نساء الارض إلاها . وصار يجلب لها كل صيف أجمل وأشهى أسماك بحار الدنيا ليبيعه
لها مقابل ابتسامة , وغمازتين تعلوان وجهها الملائكي ترحبان به . والملك الكهل لا
يزوج ابنته إلا لأمير مثلها .وأمير قلبها بحار وفارس. يملك ماء البحر , وأسماكه ,
وكل الشطان والموانئ , لكن لا مملكة له من تراب وصخر يحكمها .
وعادت تنظر الينا ..نتهامس بلغة لم تفهمها . وملابسنا ضيقة غريبة مضحكة . لا تشبه
ملابس سكان مملكتها . ونظرت بعيدا في الخيمة ونار موقدة تعرف لها شبيها بعرين الجبل
. ولكن لا تعرف للصناديق الحديدية المزركشة المتحركة مثيلا. ماذا يفعلون هنا ؟؟
ولماذا يبعثرون مقتلعين صخر جبل الشيخ بالاتهم الحديدية . ولأين سيصلون بهذه
الشوارع ؟ وأين الاشجار التي كانت تغطي الجبل ؟؟ هل سيبنون بيوتا ؟ ام ينتقمون من
جمال الطبيعة من اجل المتعة ؟؟؟
وضحكاتهم حول نار اضرموها ووضعوا فيها حبات البطاطا وعليها شواء كانت تصلها من بعيد
ولم تر من قبل رجال يضحكون كثيرا ولكل سبب . هزلهم كثير وصمتهم قليل ..
عادت هي الى سريرها الصخري المسحور , والذي مفتاحه بيد عاشق لا يفتحه إلا دفق حبه
لها . وعدنا نحن لبيوتنا , بعدما بحت حناجرنا من الغناء , وأتخمنا كثر الطعام .
وبقي حرمون , ندوب على وجهه صنعناها بأيدينا . يتكئ على صخره قصر , بناه ملك لابنته
العاشقة.