تحديد دور الولايات المتحدة في الربيع العربي
ترجمة فاضل فخرالدين - 17\04\2012
هنري كيسنجر أو هاينس ألفريد كسنجر مهاجر ألماني من أصل يهودي شغل منصب وزير
الخارجية الامريكية بين عامي ال 1973 وال 1977 ومستشار الأمن القومي في حكومة
ريتشارد نكسون لعب دوراً بارزاً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة مثل سياسة
الانفتاح على الصين وزياراته المكوكية بين الدول العربية وإسرائيل والتي إنتهت
باتفاقية كامب ديفيد عام 1978.
يطلق عليه ألقاب كثيرة مثل "ثعلب الماسونية" أو "عجوز السياسة الواقعية" أو "داهية
الغرب" . لم ينحسر ظله عن السياسة الخارجية الأمريكية رغم انقضاء عقود على تقاعده
وتنسب له الكثير من الأقوال بعضها صحيح وأكثرها ملفق (مثل المقال الذي انتشر مؤخراً
على النت بعنوان "طبول الحرب تدق ومن لا يسمعها فهو مصاب بالصمم").
توقفت إدارة باراك أوباوما عن تلقي ارشاداته المدفوعة الثمن ولكنه ما زال ضيفاً في
البرامج الحوارية ومقالات العديد من الصحف الامريكية العريقة. يزعم أنه لا يخاف من
السفر إلى الخارج رغم انه يتجنب ذلك فهو مهدد بالمحاكمة الدولية لدوره في الكثير من
المجازر في فيتنام وأمريكا اللاتينية.
فيما يلي ترجمة لمقال نشره كيسنجر في النيويورك تايمز بعنوان "تحديد دور الولايات
المتحدة في الربيع العربي" بتاريخ 2 نيسان/أبريل 2012 وقد تناوله بالتحليل الباحث
السوري المعارض صبحي الحديدي المقيم في باريس في مقال نشرته "القدس العربي" بتاريخ
14 نيسان بعنوان "امريكا والمعارضة السورية: حساب العجوز وحميّة المراهق".(*)
تحديد دور الولايات المتحدة في الربيع العربي
ليست أقل الجوانب أهمية في الربيع العربي إعادة تعريف المبادئ السائدة حتى الآن في
سياستنا الخارجية. في الوقت الذي تنسحب فيه أمريكا من مجهود حربي في العراق
وأفغانستان تم اتخاذ القرار فيه على اساس الأمن القومي (وإن كان بشكل متنازع عليه)،
فهي تعيد إنتاج هذه السياسة باسم التدخل "الانساني" (رغم عدم اليقين من النتائج).
فهل سيحل مفهوم إعادة البناء الديموقراطي محل الأمن القومي جوهرة التاج في السياسة
الخارجية الامريكية في منطقة الشرق الأوسط؟ هل فعلا يمثل الربيع العربي إعادة
البناء الديموقراطي؟ وما هي المعايير لذلك؟
الإجماع الآخذ في التطور أن الولايات المتحدة ملزمة أخلاقياً بمواكبة سياساتها مع
الحركات الثورية في الشرق الاوسط كنوع من التعويض عن سياسات الحرب الباردة (السياسات
التي توصف دائماً بالمضللة) وفيها تعاونت أمريكا مع حكومات غير ديموقراطية من أجل
أهداف أمنية. وعليه يتم الإدعاء أن دعم حكومات هشة باسم الحفاظ على الاستقرار
الدولي ولّد على المدى البعيد حالة من عدم الاستقرار، رغم التسليم أن بعض سياسات
الحرب الباردة استمرت أكثر من مدة الفائدة المرجوة منها، فقد استمرت الحرب الباردة
30 عاماً ولكنها أدت لتحولات جذرية مهمة مثل تخلي مصر عن تحالفها مع الاتحاد
السوفياتي والتوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد، فإن النمط الناشئ في ثورات هذه
المرحلة أنها إذا فشلت في إقامة علاقات تناسب أهدافها المعلنة فالمخاطر المتأصلة في
ضعفها يمكن أن تغرق القيم التي تبنتها وقامت من أجلها.
يتم تقديم الربيع العربي على أنه ثورة اقليمية يقودها شباب بالنيابة عن مبادئ
الليبرالية والديموقراطية، ولكن حتى الآن لم نرَ أن قوى كهذه هي التي تحكم ليبيا
والتي بالكاد تستمر كدولة، ولا في مصر كذلك والتي أتت اغلبيتها الساحقة في
الانتخابات بالإسلاميين، ولا يبدو أن الغلبة في المعارضة السورية هي للديموقراطيين،
ولم يتم تشكيل الرأي الجمعي حول الثورة السورية للجامعة العربية من قبل أنظمة سبق
لها أن دعت للديموقراطية أو مارستها فعلاً بل هذا الإجماع يعكس في جزء كبير منه
صراع الالف عام ونيف بين الشيعة والسنّة التي تحاول فيها الأغلبية السنّية استرداد
هيمنتها المفقودة من الأقلية الشيعية، بل إن هذا بالضبط هو أحد اسباب عدم إنخراط
أقليات كثيرة في سوريا مثل الدروز والأكراد والمسيحيين في الحراك الشعبي وعدم
ارتياحها لإرادة التغيير.
إلتقاء الكثير من المظالم حول شعار واحد لم يفرز حتى الآن منتجاً ديموقراطياً.
وكلما كان النظام القائم أكثر شمولية في تدميره كانت الصعوبة أكثر في قيام بديل
ديموقراطي قابل للثبات بل من المرحج أكثر أن يلجأ للقوة لفرض أيديولوجيات شمولية.
وكلما تشرذمت المجتمعات أكثر كلما كبر الإغراء بفرض رؤىً قومية إسلاموية جامعة
تستهدف القيم الغربية.
يجب علينا الأهتمام حتى لا تتحول الثورات بالنسبة للمتفرج الخارجي إلى تجربة
انترنتية عابرة – يتم التركيز عليها للحظات قليلة ثم يفتر الاهتمام عندما ينقضي
الحدث – يجب الحكم على الثورة بناءً على نتائجها وليس على مزاعمها. الهموم
الانسانية يجب ألا تلغي الحاجة إلى ربط المصلحة القومية بمفهوم النظام العالمي إذ
سوف يثبت مع الوقت عدم القدرة على الابقاء على عقيدة التدخل "لأسباب انسانية" إلا
إذا ارتبط ذلك بمفهوم الأمن القومي الامريكي. التدخل في الثورات يجب أن يأخذ بعين
الاعتبار تماسك النسيج الاجتماعي لبلد ما ( بما في ذلك امكانية تشظي تركيبته
الاجتماعية المعقدة) ثم تقييم ما يمكننا أن نبنيه بدل ذلك النظام القديم.
الرأي العام الأمريكي تراجع عن مجالات الجهود اللازمة لتحويل أنظمة فيتنام والعراق
وافغانستان. فهل نعتقد فعلا أن تورطاً أمريكياً أقل صراحة من تدخل على أساس الأمن
القومي سيجعل مهمة بناء الأوطان من جديد أقل تعقيداً ؟ هل لدينا تفضيل لأي من القوى
تستلم السلطة؟ أو اننا غير مبالين طالما كانت الأساليب لذلك إنتخابية؟ إذا كان
الأمر كذلك كيف يمكننا أذا تجنب مخاطر تبني نظام شمولي مطلق آخر جاء باستفتاء
الأكثرية؟ ما هي النتائج التي ستتماشى مع مصالحنا القومية الاستراتيجية؟ هل من
الممكن التوفيق بين انسحابنا من دول أساسية وتخفيض الانفاق العسكري واستبداله
بعقيدة التدخل العالمي من أجل الانسانية؟ إن نقاشاً كهذا كان غائباً إلى حد كبير من
السياسة الامريكية فيما يتعلق بالربيع العربي.
لن تكشف مزاعم الثوريين الأولية فيما إذا كان الربيع العربي فعلا سيعزز مجال الحقوق
الفردية أو بدل ذلك سوف يتم استبداله بتسلط اقطاعي عبر حقبة جديدة من الحكم الشمولي
على أساس طائفي قائم على أغلبية مطلقة أزلية. إن ما يهدد بالسيطرة على عملية
التغيير هي قوى سياسية أصولية تقليدية معززة بتحالف ثوري راديكالي بينما يتم تهميش
القوى والبنى الاجتماعية التي شكلت بدايات ذلك التغيير.
على أمريكا أن تشجع التطلعات الإقليمية من أجل تغيير سياسي ولكن من الحكمة أن نسعى
لتغيير مماثل في كل الدول وبنفس الوتيرة. سوف تخدم أمريكا قيمها ذاتها من خلال
تقديم مشورة سرية أو من خلال تصريحات علنية يرجح أن تنتج إحساساً عاما بالحصار
والعزلة. هذا لا يعتبر تنصلا من مبدأ تشكيل الموقف الأمريكي على أساس "كل بلد على
حدة" وضبط الإيقاع على العوامل ذات الصلة بما فيها الأمن القومي الأمريكي بقدر ما
هو الجوهر في سياسة خارجية خلاقة.
لأكثر من نصف قرن استرشدت السياسة الخارجية الامريكية بالعديد من الأهداف الامنية
الاساسية وعلى رأسها منع أي قوة صاعدة من الهيمنة الاقليمية وضمان تدفق حر لموارد
الطاقة التي لا تزال عصب الاقتصاد العالمي، ومحاولة التوصل الدائب إلى سلام دائم
بين إسرائيل وجيرانها بما في ذلك تسوية مع الفلسطينيين. في العقد الأخير برزت إيران
باعتبارها تحدياً رئيسياً لكل تلك الأهداف.
الربيع العربي لم يلغِ تلك الأهداف بل أن تنفيذها أصبح ملحّاً بشكل أكبر. أن عملية
تغيير تكون نتيجتها نشوء قوى حكومية اقليمية هزيلة أو أكثر ميلا لمعاداة الغرب يصب
في مصلحة هذه نتائج تصبح فيها الشراكة مع أمريكا غير مرغوب فيها يجب أن يثير
المخاوف الامريكية بغض النظر عن الآليات الانتخابية التي أوصلت الحكومات إلى السلطة.
في إطار هذه الحدود العامة لدى السياسة الخارجية الامريكية الكثير من مجالات
الإبداع في تعزيز القيم الانسانية والديموقراطية.
ينبغي أن تكون للولايات المتحدة جاهزية التعامل مع الحكومات الاسلامية المنتخبة
ولكنها أيضا يجب أن تكون حرة في اتباع مبادئ اساسية في السياسة الخارجية من أجل
أعادة ضبط موقفها على أساس مصالحها عند التعامل مع تلك الحكومات.
سلوك الولايات المتحدة خلال الاضطرابات العربية نجح حتى الآن في تجنب النظر إلى
أمريكا عقبة في طريق التحولات الثورية وهذا بحد ذاته ليس انجازا طفيفاً. ولكنه ليس
سوى عنصر واحد من نهج متكامل ناجح. سياسة الولايات المتحدة في النهاية، يمكن الحكم
عليها من خلال ما سينتج عن الربيع العربي إن كان سوف يحسن مسؤولية الدول في النظام
العالمي والمؤسسات الإنسانية.
(*)http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today/12qpt995.htm&arc=data/2012/04/04-12/12qpt995.htm