أصوات من الجولان - أمينة الخطيب *
نيسان 2012
حياتنا في الجولان قبل الاحتلال كانت جميلة، مع أن فيها بعض المرارة. فنحن كنا في
مواجهة مباشرة مع إسرائيل على خط النار، تماماً مثل حال الجنوب اللبناني.
الاشتباكات الحدودية قبل حرب 5/6/1967 كانت في معظم الأحيان تبدأ حينما تعتدي
إسرائيل علينا. كانت ترغب في ضم الأراضي الزراعية المتاخمة للحدود السورية ـ
الفلسطينية والاستيلاء على مساقط المياه. وكان الجيش السوري يدافع فقط عن أرضه.
فتحت بصري على هذه الحال حتى سنة 1961 حين انتقلت إلى دمشق لأن زوجي موظف في
العاصمة. وانتقلت إلى دمشق بسبب الزواج. وعند اندلاع حرب 1967 كنت في دمشق. ومنذ
ذلك التاريخ فُصلت عن أرضي وعن أهلي.
قريتي عين قنية تقع عند الحدود تماماً. سهل الحولة قبالتنا. وآخر حدود أراضي القرية
يقع عند نهر بانياس. كان الجنود الإسرائيليون يعتدون، باستمرار، على الفلاحين
السوريين، فيمنعونهم من زراعة أراضيهم. وفي مرات كثيرة كانوا يختطفون بعضاً منهم ثم
يعيدونهم من خلال قوات الطوارئ الدولية. العلاقة بين أهلنا والفلسطينيين كانت حميمة
جداً، وكان البعض يقول إن رزقنا من فلسطين. فلسطين بلد عربي، وأرضها من الحولة إلى
غور الأردن خصبة جداً وملائمة لزراعة الحمضيات. وكانت التجارة نشطة بين سوريا
وفلسطين ولم يكن هناك أي حدود بيننا بل بلد واحد. نشأنا وأهلنا يقولون لنا إن أرضنا
في فلسطين وأجدادنا من فلسطين وأقرباؤنا ما زال بعضهم في فلسطين. أنا أقربائي في
قرية حرفيش في الجليل الأعلى.
نحن في الأصل من الخلوات بجوار حاصبيا في لبنان. لكن الحدود قسمتنا. ففي لبنان لنا
أقرباء، وفي حرفيش لنا أقرباء وفي جبل العرب لنا أقرباء. نحن من آل عامر، وجدي كان
معلماً فصار اسم عائلتنا الصغرى الخطيب. جزء من العائلة جاء إلى الجليل وجزء آخر
جاء إلى الجولان، ومن هنا انتقل جزء إلى جبل العرب. لم يكن يفصلنا عن أهلنا في
فلسطين أي حد. كل ما يحتاجه الواحد منا لزيارة أقربائه أن يركب وسيلة نقل ويتجه عبر
نهر الشريعة إلى المكان المقصود. في سنة 1948 ارتفعت الحدود حتى صارت سداً. لم نر
أهلنا في فلسطين حتى سنة 1967 عندما أمكن أن نلتقي ثانية. لكن حرب 1967 أقامت سداً
شنيعاً ثانياً ففصلتنا عن وطننا سوريا.
أنا جئت دمشق سنة 1963، وكنت أذهب إلى الجولان وأعود منه باستمرار. واستمرت الحال
على ما هي عليه حتى يوم 5 حزيران/ يونيو 1967. تلقيت خبر الحرب بفرح. اعتقدت أننا
سننتصر ونعيد فلسطين إلى أهلها. لم نضع الهزيمة بالحسبان البتة. لأن ثلاثة جيوش
تحارب من ثلاث جبهات. لم نكن نعرف قوة إسرائيل التي هي في النهاية، قوة الولايات
المتحدة. ولولا الدول الغربية لما صمدت إسرائيل أبداً. بعد الهزيمة لم أذهب إلى
الجولان ولم أر أحداً من أهلي. توفيت أمي ومات أعمامي الأربعة وتوفي والدي ولم ألتق
واحداً منهم. الذين تركتهم أطفالاً تزوجوا. أما حنيني للجولان وأرضه ومياهه وأشجاره
وسكانه فلا يوصف. الجولان لا يبعد عني اليوم أكثر من مسير ساعة بالسيارة، وأنا هنا
في دمشق غير قادرة على زيارته.
أذهب دائماً إلى التلة المقابلة لقرية مجدل الشمس التي سموها «تلة الصراخ»، وهنا
أشعر بالقهر. فبلدي أمام عيني ولا أستطيع أن أصل إليه. أنا عندما أذهب إلى الشريط
الذي يفصلني عن أهلي وأروح أسأل عنهم فيقولون لي عبر مكبرات الصوت إن فلاناً مات
وفلاناً على وشك الموت، أحس بغضب شديد وأتمنى لو أستطيع أن أقتلع الأسلاك والألغام
ولا يهمني إن مت بعدها. ألتقي أهلي في الأردن. لم يبق لي منهم إلا أختي. لم أر أحداً
من أهلي منذ سنة 1967. كنت أراهم بالمنظار من بعيد، ولا أستطيع أن أحفظ ملامح
وجوههم. أعيش اليوم على الذكريات القديمة. أختي تركتها وهي في الخامسة عشرة، الآن
لديها ستة أولاد.
* أمينة الخطيب ربة منزل من مواليد قرية عين قنية سنة 1944.
نشرت في ملحق السفير ضمن مادة بعنوان "أصوات من الجولان"