الجبل
الشيخ.. الجبل المقدس
نضال الشوفي - 13\11\2009
لأولئك الذين تقافزوا بغبطة منذ حين بين صخور الجبل الأجرد، كأنما يعيدون اكتشاف
المكان من جديد، وفي غمرة فرحهم بالعثور على بعض الحجارة المهذبة التي تتوسد التراب
أو تجاهد كي تزيحه عنها، لأولئك أقول أن توافد الضيوف المستمر على الخيمة، وانقلاب
حال الطقس فيما بعد، حالا دون قيام المحاضرة الموعودة عن تاريخ وآثار الجولان .
ورغم أن ما يمكن أن يقال في الموضوع، لا يتسع له مجرد لقاء وحيد، إذ أن تلاحق الحقب
التاريخية على منطقة الجولان، وارتباطه الوثيق بمحيطه الجغرافي والبشري على مدى
عهود مشهودة فيما خلفته، يجعل من تواتر الأخبار والمعلومات متقطعا حينا، ووفيرا
أحيانا أخرى.
إن ذلك يحيلنا ههنا للاقتصاد في الحديث وحصره بجبل الشيخ، هذا الشامخ الذي نال
إعجاب معظم الشعوب التي استوطنت منطقة شرقي البحر المتوسط وجواره الإقليمي منذ
أواخر الألف الثالث قبل الميلاد، لدرجة أنهم قدسوه، وشيدوا فوق قممه المعابد التي
تسيّدها معبد ( بعل حرمون ) القابع فوق أعلى القمم، حتى صار يعرف بينهم على أنه جبل
الإله بعل، في حين درجت بعض الشعوب التي عبدت الشمس أيضا، على حمل الجرار المليئة
بالماء من البحر، في أواخر كل صيف، وسكبها فوق أعلى وأقرب نقطة إلى الشمس حيث يقوم
المعبد، ومن ثم الصلاة والدعاء لنيل موسم ماطر وخير وفير.
هذه القداسة التي حظي بها الجبل ظلت راسخة على مدى عصور طويلة، فالسيد المسيح صعد
الجبل، بعد زيارته لمدينة بانياس، وتجلى فوقه بصور نورانية، فاق فيها الضوء المنبثق
من وجهه وثيابه نور الشمس، ولهذا نرى اليوم بعض المسيحيين القاطنين في القرى
اللبنانية القريبة من الجبل، وخاصة راشيا الوادي، يحتفلون كل عام عيد التجلي
بالمسير إلى قمم جبل الشيخ، وإقامة الطقوس هناك.
ثمة طبيعة من نوع مختلف للعلاقة التي ربطت الشعوب المختلفة بالجبل، حيث تحصّنت فيه
الجيوش، فالنص الذي اكتشفه الباحث البريطاني جورج سميث في العام 1966م، يعتبر من
أقدم الإشارات الواردة في ذلك، وهو يعود إلى القرن التاسع قبل الميلاد، دوّنه الملك
الآشوري شلمنصر يصف فيه أعماله الحربية فيقول: " في السنة الثالثة من ملكي، عبرت
الفرات للمرة السادسة عشرة، وكان الملك حزائيل الآرامي الواثق من قوته قد حشد جيشا
عظيما عند جبل سفيرو، عند مدخل لبنان حصنه القوي " فحزائيل هو ملك دمشق الذي تحصن
في جبل سفيرو، وهي التسمية الآشورية لجبل الشيخ.
ومن ناحية أخرى فإن جميع ممالك بلاد الرافدين قد استوردت أخشاب شجر الأرز الذي كان
ينمو بوفرة في الجبل، حيث عوض عن أشجار النخيل التي تنمو عندهم، لكن جذوعها الطويلة
ليست بمثل متانة شجر الأرز بحيث تقوى على حمل سقوف المباني والبيوت السكنية.
وقد درج الفراعنة أيضا على فعل الشيء ذاته، فأرسلوا بعثات تجارية لقطع شجر الأرز
ونقله عبر البحر في سفن قدر عددها في كل بعثة ب 40 سفينة، إلى جانب أنهم نقلوا
الثلوج التي تغطي الجبل طيلة أيام السنة عبر ميناء صيدا إلى قصور الفراعنة والباحات
العامة في المدن المصرية، وظلت هذه العادة منتشرة في المدن المحيطة بالجبل أيضا حتى
القرن العشرين، فبعض الناس قد امتهنوا نقل الثلوج وبيعها في أيام الصيف القائظ،
ولعل بعض المسنين يتذكرون ذلك، أو أنهم امتهنوا العمل ذاته في يوم من الأيام .
وربما يكفينا التعرف على المسميات العديدة التي أطلقت على الجبل حتى تتأكد لنا
منزلته الرفيعة عند الشعوب، فالعرب أطلقوا عليه اسم
1_ جبل الثلج، وقد ورد ذلك في قصيدة لحسان بن ثابت يمدح فيها أخواله من آل جفنة
الغساسنة، فيتبين لنا بالتالي أن تسمية
2_ جبل الشيخ حديثة نسبيا، واختلفت الآراء في أصولها، إذ هناك رأي يقول أنها جاءت
تشبيها للجبل المكسو بالثلوج على مدى حول كامل، بالرجل الشيخ الذي كلل البياض هامته،
وهناك رأي آخر يقول أنه شبه باللباس التقليدي عند الدروز، خاصة أن القرى الدرزية
تطوق الجبل منتشرة على سفوحه، أما الرأي الثالث فيرّد ذلك إلى زمن الحملات التي قام
بها القائد التركي أحمد كجك على إمارة فخر الدين المعني، حيث كان جنوده يتوجهون إلى
قرية عين عطا القريبة من الجبل، بهدف القبض على الشيخ الفاضل ( محمد أبي هلال )،
لكن الشيخ كان معروفا بتقواه وزهده لدرجة أنه كان يتخذ له مغارة في الجبل يتعبد
فيها، فكان جنود أحمد كجك عندما يقصدون بيته يقال لهم الشيخ في الجبل، ومن هنا جاءت
تسمية جبل الشيخ.
من الأسماء الدارجة حتى اليوم:
3_ حرمون وهو كما يظن اسم عبري يعني المقدس، لكن الاسم سلف وروده في ملحمة جلجامش
في العبارة التالية: " أرض جبل الأرز حرمون، هي أرض الخالدين " ، كذلك ورد في
معاهدة السلام التي وقّعها الملك الحثي حاتوشيلي الثالث مع الفرعون المصري رعمسيس
الثاني في العام 1272 قبل الميلاد، وبذلك يمكن أن نؤكد أن العبرانيين قد أطلقوا على
الجبل أسماء
4_ سنيرو
5_ سيئون.
عرف الجبل كذلك باسم
6_ أرض شوب، أي أرض الإله شوب إله الهواء عند الحوريين، ولا زالت قرية كفر شوبا
الواقعة في منطقة العرقوب تحمل الاسم، وفيها ينتصب معبدا ضخما لبعل جاد، وهو نفسه
بعل حرمون.
وفيما يلي باقي التسميات:
7_ الكنعانيون سموه سعار
8_ الأموريون سموه شنير
9_ الفينيقيون سموه سيرون
10_ الآشوريون سموه سفيرو
11_ الصيدونيون سموه حرمون سيرون
12_ الآراميون سموه طور ثلجا
13_ اليونان والرومان سموه أنتيليبانوس أي المواجه للبنان، أو المطل على لبنان.
هذه كلها أسماء لجبل الشيخ عند مختلف الشعوب التي خلفّت آثارا عديدة فوق الجبل وعلى
سفوحه، نذكر منها:
1_ أجران المطابخيات فوق تل الجراجمة على الجانب اللبناني
2_ المدافن الرومانية في منطقة برقش قريبا من قرية بيت جن
3_ قلعة جندل التي أخذت القرية اسمها
4_ مدينة بانياس وقلعة الصبيبة
5_ مدينة ليش أو دان نسبة لواحد من الأسباط اليهودية وتقع عند مدخل سهل الحولة على
السفوح الجنوبية الغربية للجبل
6_ المغائر المقدسة كمغارة الإله إل أو إليا
7_ وأخيرا قصر شبيب أو قصر عنتر، وهو معبد قديم لبعل حرمون نسجت حوله في العصور
الحديثة أسطورة تقول أن شبيب كان أحد ملوك بني تبع اليمنيين، الذي شيّد قصرا فوق
الجبل ليقضي أيام الصيف فيه، ورغم وجود قصر تاريخي في منطقة الأزرق في الأردن يحمل
اسم شبيب، فأن التسمية والقصة التي تخص جبل الشيخ لا صحة تاريخية لها، وإنما أصل
المكان معبد وثني يتكون من باحة مستديرة محاطة بسور مبني من الحجارة البيضوية الشكل
بطول متر واحد لكل منها، يلي ذلك قبة مخروطية الشكل في أعلاها فتحة، وفي الداخل
يوجد مغارة ( قدس الأقداس ) بعمق 3 أقدام وارتفاع 8 أقدام توضع فيها النذور،
والمساحة الكلية للمعبد تبلغ 30 _ 50 م ، وقد عثر عالم الآثار الإنكليزي ورن في
العام 1869م على نص من العصر الروماني محفور بجانب جدار المعبد، كتب عليه عبارة: "
بأمر الإله الأعظم المقدس الذي أقسموا من هنا " ويعتقد أن القصد من الإله الأعظم هو
بعل حرمون نفسه، أما الحجر فقد نقل إلى المتحف البريطاني، ومما عثر عليه في المعبد
أيضا، نقود من العصر الأموي، هي الآن محفوظة في متحف القنيطرة, وتدلل على استخدام
المعبد حتى ذاك العصر.
بالنسبة للآثار الموجودة شمال القرية ( مجدل شمس ) فعلى الأرجح أنها تعود لأحد
المعابد التي كانت تتبع لبعل حرمون من ضمن ما يزيد على 20 معبد آخر منتشرة فوق
الجبل، هذا طبعا رأي وانطباع شخصي ، إذ أن المكان يشير إلى معبد تتبع له ملحقات
سكنية أو دفاعية لم يكتمل بناؤها بعد، ربما تهدمت بفعل زلزال، لكن الحجارة المتفرقة
في الموقع، وخاصة الحجر الضخم المستطيل بالقرب من الطريق، يعكس عملا لم يتم، إذ أن
الحفرة الواضحة في وسطه تشير إلى محاولة لم تكتمل في كسر الحجر إلى قطعتين عن طريق
حشر أوتاد خشبية في الحفرة ومن ثم ترطيبها بالماء، بعد ذلك يسهل نقل أجزاءه إلى
المكان المخصص في البناء بحيث تتطابق الزخارف المنقوشة مسبقا عليه مع بعضها بعد أن
يتوضع نهائيا في موقعه.
هذه مادة مبسطة حول جبل الشيخ، عمدت فيها إلى تعداد الآثار المنتشرة فوقه دون تفصيل
حتى أيسر على مختلف القراء الاطلاع عليها، وبقي أن أذكر أن الجبل يمتد على طول 60
كلم وعرض 30 كلم ، تحتل إسرائيل ما نسبته 7% من مساحته، والباقي ينقسم بين السيطرة
السورية واللبنانية.