خنادقُ العداوةِ وجسورُ الْمحبّةِ - ارشيف موقع جولاني
الجولان موقع جولاني الإلكتروني

خنادقُ العداوةِ وجسورُ الْمحبّةِ
نايف ابراهيم - 09\02\2013
1--في قريةٍ ريفيّةٍ جميلةٍ، تظلّلُها الأشجارُ المْثمرةُ، وترويها الْينابيعُ الْعذبةُ، وتُحيطها السّهولُ الْخصبةُ، عاشَ الأخوانِ (كريمٌ وحليمٌ) في مزرعتينِ مُتجاورتينِ. لقدْ كانَا مُتفاهمينِ مُتعاونينِ في السّرّاءِ والضّرّاءِ، فعاشَا طيلةَ أربعينَ عامًا بأحسنِ حالٍ وأهنأِ بالٍ.

5--ذاتَ يومٍ حصلَ بينهُما سوءُ تفاهمٍ، سرعانَ ما تحوّلَ إلى خلافٍ، فاستغلَّ شيطانُ كلٍّ منهُما ذلكَ، وراحَ يتحدَّى نظيرَهُ، ويحرِّضُ صاحبَهُ على تعميقِ الْهوَّةِ، وتكريسِ الْقطيعةِ بينَهُ وبينَ أخيهِ الْوحيدِ، فاحتدمَ الْخلافُ بينَهُما، وأصبحَ صِراعًا حادًّا، بلْ أزمةً حقيقيّةً، أدَّتْ إلى انقطاعٍ ثمَّ قطيعةٍ بينَ الأخوةِ، فتحوّلَتْ حياتُهُما مِنْ نعيمٍ إلى جحيمٍ! ومِنْ مَحبّةٍ واحترامٍ إلى كُرْهٍ وانتقامٍ.

10--في أحدِ الأيّامِ، وبينما كانَ حليمٌ وزوجتُهُ سعادُ يعملانِ في المْزرعةِ، اقتربَ منهُما شخصٌ يحملُ صندوقًا، فحيَّاهُما قائلاً:" إِنّي نجّارٌ أبحثُ عنْ عملٍ، لربَّما تحتاجانَني في عملٍ ما هنَا أو هُناكَ، وأعدُكما أنَّني سأكونُ عندَ حُسنِ ظنّكُما قولاً وعملاً "، فأجابَهُ حليمٌ:" نعمْ بالصّدفةِ لديَّ عملٌ مُمتازٌ مِنْ أجلِكَ! لقدْ جِئْتَ في وقتِكَ، هلْ تَرى تلكَ المْزرعةَ حيثُ يقفُ ذاكَ الرّجلُ؟ إنّهُ أخي الصّغيرُ كريمٌ! فقبلَ أُسبوعٍ كانَتْ مَزرعَتي ومَزرعتُهُ، حديقةٌ واحدةٌ كأنَّها جِنانٌ! يلهو بها أطفالُنَا كأنَّهُم غِزلانُ! فقامَ بحفرِ خندقٍ عريضٍ بجرّافتِهِ الضّخمةِ! ليفصُلَ بينَ المْزرعتينِ، وقدْ فعلَ ذلكَ حتّى يُغيظَني! ويكرِّسَ الْقطيعةَ بينَنا! وربِّ الْكعبةِ سأردُّ لهُ الصّاعَ صاعينِ! وسأجعلُهُ يندمُ على عملِهِ الأحمقِ هذا، حيثُ لا ينفعُ النّدمُ! فهلْ تَرى كَوْمةَ الأخشابِ تلكَ؟ أُريدُكَ أنْ تجعلَ مِنها بيني وبينَهُ جدارًا! يرتفعُ ثلاثةَ أمتارٍ على أقلِّ تقديرٍ، كي لا يراني ولا أراهُ! فيمكنُكَ أنْ تُباشرَ الْعملَ غدًا صباحًا. أمّا أنا فمُزْمِعٌ على السّفرِ، آملُ أنْ تُنهيَ عملَكَ بسرعةٍ وكما يجبُ " .

22-عندَئذٍ تدخّلَتْ زوجتُهُ قائلةً:" أرجوكَ يا حليمٌ لا تتسرّعْ! فإذا كانَ كريمٌ قدْ أخطأَ، ولمْ يُراعِ حقَّ الأخوَّةِ وحقَّ الْجيرةِ! فسيبقى أخاكَ الْوحيدَ! فلا تُعاملْهُ على عملِهِ! ولا تُعالجْ خطأَهُ بخطأٍ أفدحَ منهُ! ولا تدعِ الشّيطانَ الرّجيمَ يُسيطرُ عليكَ! فاستلهمِ الْعقلَ، واتركْ مجالاً للسّلامِ والْوئامِ! ولا تزرعْ بذورَ الْفرقةِ والْعداوةِ والانتقامِ! فلنْ يحصدَ ذلكَ ولنْ يكتويَ بنارِهِ إلاّ أبناؤُنا مِنْ بعدِنا! فعاملْ بمعروفٍ! وسامحْ مَنِ اعتدى! وفارقْ ولكنْ بالّتي هيَ أحسنُ "! فما إنْ سمعَ حليمٌ هذا الْكلامَ حتّى استشاطَ غيظًا! وازدادَ إصرارًا على الانتقامِ! فطلبَ مِنَ النّجّارِ أنْ يُباشرَ بعملِهِ وبأسرعِ وقتٍ مُمكنٍ!

30-- في الْيومِ التّالي، عادَ حليمٌ مِنْ سفرِهِ مساءً، فوجدَ النّجّارَ قدْ أنهى عملَهُ على ما يُرامُ! فكمْ كانَتْ دهشتُهُ عظيمةً! لأنَّهُ لمْ يرَ جدارًا يفصلُ بينَ المْزرعتينِ! بلْ رأى جسرًا يصلُ بينهُما! وعلى جانبيهِ حاجزٌ جميلٌ! صُنِعَ ببالغِ الدّقةِ والإتقانِ! وكمْ كانَتْ سعادتُهُ كبيرةً عندَما رأى أخاهُ يقفُ على الطّرفِ الثّاني مِنَ الْجسرِ! ويقولُ:" الْعفو والمْغفرةُ يا أخي! أنا أخطأْتُ ومنكَ السّماحُ! أنا ابتدأْتُ بالإساءَةِ! وها أنتَ تقومُ بوصلِ ما انقطعَ بينَنَا مِنْ أُخوّةٍ ومَودّةٍ ورحمةٍ! حقًّا إنَّكَ رجلٌ عظيمٌ واسمٌ على مُسمَّى! فالتّسامحُ مِنْ شيمِ الْكرامِ "! فما إنْ سمعَ حليمٌ ذلكَ، حتّى اغرورقَتْ عيناهُ بالدّموعِ! فتقدّمَ نحوَ أخيهِ بشوقٍ وحنانٍ! فضمَّ كلٌّ منهُما أخاهُ ضمّةً حانيةً! وقبّلَهُ قُبلةً حارّةً! ولسانُ حالِهِ يقولُ:" الْحمدُ للهِ! لقدِ انتصرَ الْحقُّ والْخيرُ! وهُزِمَ الشّيطانُ والشّرُّ "!

40-في تلكَ الأثناءِ، كانَ النّجّارُ يُراقبُ ذلكَ ونشوةُ الانتصارِ باديةٌ على مُحيّاهُ! فالْتفتَ الأخوانِ نحوَهُ وقالا بصوتٍ واحدٍ:" سلّمَ اللهُ يديكَ! وباركَ عليكَ! وجزاكَ عنَّا خيرًا! فكم تُريدُ أجرًا على إحسانِكَ وحُسنِ صنيعِكَ؟

43-عندَئذٍ أجابَ النّجّارُ :" أوّلاً: لا شكرَ على واجبٍ يا سيّدي! فالذي يفعلُ الخيرَ بضميرٍ حيٍّ ونيّةٍ صافيةٍ لا يتوقّعُ مُكافأةً، ولا يطمعُ بثوابٍ لإحسانِهِ وصنيعِهِ! ثانيًا: لقدْ وصلَني حقّي كاملاً غيرَ منقوصٍ! فعندَما رأَتْ عينايَ ما صنعَتْ يدايَ غمرَتْني سعادةٌ عارمةٌ! سعادةٌ لا يشعرُ فيها ولا يقدّرُها إلاّ الصالحونَ إذا ذُكِروا في الملأِ الأعلى! فيُسعدُني أنْ أراكُما قلبًا واحدًا ويدًا واحدةً! فالاتّحادُ قوّةٌ، والتّفرّقُ ضعفٌ، ويدُ اللهِ معَ الجماعةِ! فاسمحَا لي، فلديَّ المْزيدُ مِنَ الْجسورِ الّتي يجبُ عليَّ الْقيامُ ببنائِها "!

50_اللّهمَّ أكثرْ منْ هؤلاءِ المحسنينَ المصلحينَ! وألّفْ بينَ قلوبنا جميعًا في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ آمين!