حديقةُ الْقيمِ الإنسانيّةِ
نايف ابراهيم - 14\05\2013
1_عصامٌ شابٌّ في الْعقدِ الثّالثِ مِنْ عُمرِهِ مُتزوّجٌ ولهُ ثلاثةُ أولادٍ،
يعيشُ في قريةٍ جبليّةٍ نائيةٍ ضئيلةِ المْواردِ الطّبيعيّةِ والزّراعيّةِ
والصّناعيّةِ، الأمرُ الّذي جعلَ حياتَهُ وحياةَ أُسرتِهِ تزدادُ صُعوبةً يومًا
بعدَ يومٍ، فساقَتْهُ الضّرورةُ للابتعادِ عنْ أُسرتِهِ وقريتِهِ سعيًا وراءَ حياةٍ
أفضلَ.
5_ودّعَ عصامٌ زوجتَهُ وأولادَهُ، وانطلقَ يبحثُ عنْ عملٍ شريفٍ وكسبٍ حلالٍ يكفيهِ
مرارةَ الْحياةِ ومسْأَلَةِ اللّئامِ، فراحَ يجوبُ الْقُرَى الصّغيرةَ والْكبيرةَ
الْقريبةَ والْبعيدةَ إلى أنِ اهتدَى إلى مَزرعةٍ نائيةٍ مُهمَلةٍ بسببِ مَرضٍ
عُضالٍ ألمَّ بصاحبِها، فاتّفقَ الاثنانِ على شُروطِ الْعملِ في المْزرعةِ عنايةً
وصيانةً وأجرًا.
9_بدأَ عصامٌ يهتمُّ بالمْزرعةِ اهتمامَ صاحبِ المْلكِ بمُلْكِهِ، فلمْ يبخلْ
عليْها لا بوقتِهِ ولا بجُهدِهِ ولا بعرقِهِ، ولمْ يمضِ على ذلكَ عامانِ اثنانِ
حتّى بدَأَتِ المْزرعةُ يومًا بعدَ يومٍ تستعيدُ حياتَها وحيويّتَها، وتزدادُ
جمالاً وبهاءً وعطاءً كمًّا ونوعًا الأمرُ الّذي أعادَ لصاحبِها الْبسمةَ والرّاحةَ
والأملَ.
13_ذاتَ ليلةٍ وبينَما كانَ عصامٌ يُراقبُ حدودَ المْزرعةِ مِنْ خيمتِهِ المْطلّةِ
عليْها والّتي اتّخذَها مأوىً دائمًا لهُ، وإذا بلصٍّ يقتحمُ المْزرعةَ، وراحَ
يعبثُ بأشجارِها وثمارِها، فقامَ عصامٌ بتحذيرِهِ أوّلاً وثانيًا وثالثًا، إلاَّ
أنَّ اللّصَّ تجاهلَ ذلكَ عامدًا مُتعمِّدًا، فانقضَّ عصامٌ عليْهِ مُهدّدًا
مُتوعِّدًا، فولىَّ اللّصُّ الأدبارَ مُنهزمًا مَذعورًا، وبينّما هوَ يركضُ
ويَلتفتُ وراءَهُ، عثرَتْ قدمُهُ بحجرٍ كبيرٍ فسقطَ على الأرضِ يتألّمُ ويستنجدُ
وينزفُ دمًا، اقتربَ عصامٌ منْهُ مُحاولاً إسعافَهُ والتّهدئةَ مِنْ روعِهِ إلاّ
أنَّ النّزيفَ الْقويَّ لمْ يُمهلْهُ طويلاً، فسرعانَ ما لقي حتفَهُ مُضرّجًا
بدمائِهِ!
20-نقلَ عصامٌ الْجثّةَ إلى ساحةِ الْقريةِ ليتعرّفَ أهلُها عليْها، فما كانَ مِنْ
ذويها إلاَّ أنِ اتّهموا عصامًا بالْقتلِ الْعمدِ، فرفعوا أمرَهُ لقاضي الْقريةِ،
وبعدَ جلسةٍ مُطوّلةٍ مِنَ الأخذِ والرّدِّ والاتّهامِ والدّفاعِ أمامَ جُمهورٍ
غفيرٍ مِنْ أهلِ الْقريةِ، حكمَ الْقاضي على عصامٍ بالإعدامِ مساءَ الْيومِ
التّالي.
24_حاولَ صاحبُ المْزرعةِ أنْ يُكافئَ عصامًا على إخلاصِهِ لهُ ولعملِهِ، وذلكَ
بالتّكفُّلِ بكلِّ ما يطلُبُهُ أهلُ الْقتيلِ مِنْ أموالٍ وعقارٍ، إلاَّ أنّهُم
رفضوا ذلكَ رفضًا قاطعًا، مُطالبينَ بإعدامِهِ شنقًا ودونَ تأخيرٍ أو تبريرٍ، فطلبَ
عصامٌ مِنَ الْقاضي أنْ يمنحَهُ مهلةً ليتسنَّى لهُ الْعودةَ لقريتِهِ، لكي يُودّعَ
أهلَهُ وزوجتَهُ وأولادَهُ، ويُخبرَهُم بما جرى لهُ، وأقسمَ لهُ أنَّهُ سيعودُ في
الْوقتِ الْمُحدّدِ لذلكَ.
29_وافقَ الْقاضي على ذلكَ شرطَ أنْ يَكفلَهُ أحدٌ، فهوَ غريبُ الدّيارِ، ولا يعرفُ
أحدًا، ولا أحدٌ يعرفُهُ، فقامَ مِنْ بينِ الْحضورِ شابٌّ وسيمُ الطّلعةِ، يُدعَى
كريمًا وقالَ: "أيُّها الْقاضي الْعادلُ إنِّي على استعدادٍ لكفالةِ هذا الرّجُلِ
وكُلِّ ما يترتّبُ على ذلكَ! وقدْ فعلْتُ ذلكَ لئلاّ يقولُ قائلٌ: لقدْ عقَّتْ
هذِهِ الْبلادُ وخلَتْ مِنَ التّضحيةِ والْفداءِ!" فصاحَ الْجمهورُ بصوتٍ واحدٍ
تحيا التّضحيةُ يحيا الْفداءُ! عندئِذٍ أطلقَ الْقاضي سراحَ عصامٍ، واحتجزَ كريمًا
مكانَهُ.
35_لقدْ مضتِ المْهلةُ بسرعةٍ، ولمْ يبقَ على المْوعدِ الْمحدّدِ سِوى ساعةٍ
واحدةٍ، فأمرَ الْقاضي تنفيذَ الْحكمِ بالْكفيلِ على مَرأَى ومَسمعِ الْجميعِ،
فابتدَأَ الْحضورُ بالْعد ِّالتّنازليِّ :عشرةٌ تسعةٌ ثمانيةٌ سبعةٌ ستّةٌ، وبينَما
هُمْ كذلكَ، وإذا برجُلٍ مُقبلٍ يُسابقُ الزّمنَ، ويَصيحُ: "توقّفوا توقّفوا! هأنذا
قدْ جئْتُ على جناحِ السّرعةِ، لئلاّ يقولُ قائلٌ: قدْ عقَّتِ البلادُ وخلَتْ مِنَ
الإخلاصِ والْوفاءِ"! فصاحَ الْحضورُ جميعًا يحيا الإخلاصُ يحيا الْوفاءُ! فنهضَ
والدُ الْفقيدِ مِنْ فورِهِ قائلاً: "يا فضيلةَ الْقاضي إنَّ ما رأيْتُهُ، وما
سمعْتُهُ هوَ خيرُ عزاءٍ، وخيرُ رجاءٍ والشّاعرُ يقولُ:
إذا ضاقَ صدرُ المْرءِ لمْ يصفُ عيشُهُ ولا يستطيبُ الْعيشَ إلاّ المْسامحُ
فلقدْ وصلَني حقّي كاملاً! لذلكَ قدْ عفوْتُ عنْ هذا الرّجلِ، فالتّسامُحُ مِنْ
شيمِ الْكرامِ! واللهُ على ما أقولُ شهيدٌ! وهأنذا أضمُّهُ وأُقبّلُهُ أمامَ
الْجميعِ! وقدْ فعلْتُ ذلكَ لئلاَ يَقولُ قائلٌ: لقدْ عقَّتِ الْبلادُ وخلَتْ مِن
التّسامحِ والتّصالحِ!" فصاحَ الْجميعُ بصوتٍ واحدٍ: عاشَ التّسامحُ عاشَ
التّصالُحُ!
47_عندّئذٍ قالَ الْقاضي وعيناهُ مُغرورقتانِ بالدّموعِ:" إنَّ أُمَّةً تتحلّى بما
رأَتْ عينايَ وسمعَتْ أُذنايَ جديرةٌ بالإكرامِ والاحترامِ! فلا شكَّ أنَّ الصّلحَ
سيّدُ الأحكامِ! فإنِّي أُحيّكُم، وأشدُّ على أياديكم !فباركَ اللهُ فيكم، وجزاكُمْ
خيرًا! لذلكَ لنْ أدعَكُم أكثرَ منِّي كرمًا وتكريمًا! فيسعدُني أنْ أُقدّمَ لكم
جميعًا حديقتي هذِهِ هبةً قلبيّةً لتكونَ حديقةً عامّةً، وشاهدًا حيًّا دائمًا
وأبدًا على تحلّيكُم بمكارمِ الأخلاقِ! فالشّدائدُ مِحكُّ الرِّجالِ والشّعوبِ!
فليزرعرعْ كريمٌ في حديقتِكُم هذِهِ شجرةَ التّضحيةِ والْفداءِ، وليزرعْ عصامٌ شجرةَ
الإخلاصِ والْوفاءِ، وليزرعْ أبو الْفقيدِ شجرةَ التّسامُحِ والتّصالُحِ، وسأزرعُ
أنا (خادمُكُم) شجرةَ الإكرامِ والتّكريمِ، وليزرعِ الشّعبُ شجرةَ الْخيرِ والْحبَِ
والْجمالِ!"
53_مرّتِ الأيّامُ والأعوامُ وأهلُ الْقريةِ صغارًا وكبارُا يتّخذون من حديقتِهم
قِبلةً لهم! لا يتوانونَ عنْ رعايتِها والعنايةِ بها، ولا ينقطعونَ عنْ زيارتِها!
وذلكَ ليستظلّوا بظلالِها، ويتمتّعوا بجمالِها، ولينهلوا مِنْ ذاكرتِها ومِنْ
قيمِها قيمًا إنسانيّةً خالدةً!
55_ما أجملَ وما أروعَ أنْ يكونَ الإنسانُ بأقوالِهِ وأفعالِهِ حديقةً كتلكَ
الْحديقةِ! يسمو بأخلاقِهِ الْعاليةِ! ويفخرُ ويعتزُّ بقيمِهِ الإنسانيّةِ
النّبيلةِ!