أصعب الأعوام على موسكو وبوتين

قد يكون عام 2014 شكّل أمام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وفريقه الاقتصادي الاختبار الأصعب منذ ان وصل إلى السلطة عام 2000، إذ لم يسبق ان واجهت روسيا كل هذه الصعوبات الاقتصادية والمعيشية المتزامنة مع اقوى ضغوط اقتصادية وسياسية تمارس عليها من الخارج. وحتى عندما كانت البلاد تحاول التقاط أنفاسها في منتصف تسعينات القرن الماضي وهي تواجه نزعات انفصالية وفوضى شاملة في القطاع الاقتصادي وانتشاراً فظاً للجريمة المنظمة، كانت الأسباب تُعزى إلى انعدام وزن السلطة المركزية وحال التخبط التي سيطرت على آلية اتخاذ القرارات. أما الوضع الحالي فأثار وفق خبراء مخاوف أكبر، لأن السلطة قوية والبلد متماسك، لكنه يواجه تحديات غير مسبوقة.

مع حلول نهاية العام، بدا المشهد قاتماً على الصعيد الاقتصادي في روسيا على رغم محاولات السلطة إضفاء نوع من التفاؤل على التوقعات، إذ أسفرت العقوبات الغربية المفروضة على موسكو على خلفية المواجهة القائمة في أوكرانيا، عن آثار قاسية على الاقتصاد الروسي، بدأت بدخول نفق من الجمود لا تبدو نهايته متوقعة في المدى القريب، وأصابت قطاعات حيوية بحال من الشلل، على رأسها القطاع المصرفي وقطاع الخدمات، بينما تدهورت أوضاع قطاعات أخرى بقوة مثل صناعة السيارات والآليات، وأُصيب قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسطة بهزّات مميتة أسفرت عن إفلاس مئات الشركات التي لم تجد تمويلاً أو مساعدة من الحكومة.

وفي المقلب الآخر من المشهد، ترنّح الروبل بقوة وفقد نحو 90 في المئة من قيمته خلال النصف الثاني من العام (من 33 روبلاً في مقابل الدولار في منتصف العام إلى 61 حتى كتابة هذه السطور) بتأثير تراجع أسعار النفط، والضغوط الكبرى التي تعرض إليها، وفشلت محاولات المصرف المركزي في ضبط أسعار العملات والحفاظ على سعر العملة الوطنية على رغم تدخل مؤلم أفقد الدولة اكثر من نصف حجم الاحتياط من النقد الأجنبي، إذ بلغت خسائر روسيا على هذا الصعيد اكثر من 200 بليون دولار في ثلاثة أشهر، ما دفع «المركزي» إلى التوقف عن محاولات دعم الروبل وإعلان ان الدولة ستتدخل فقط في حالات طارئة جداً، وهذا ما حصل الأسبوع الماضي.

وتزامنت الضربات المتلاحقة مع زيادة معدلات تسرب رؤوس الأموال وهي ظاهرة طبيعية في روسيا خلال السنوات الماضية، لكنها بلغت مستويات غير مسبوقة هذا العام، إذ تشير الأرقام الرسمية إلى هروب نحو 120 بليون دولار حتى تشرين الثاني (نوفمبر)، بينما تؤكد معطيات خبراء مستقلين ان الرقم الحقيقي زاد عن 150 بليوناً. ولم يكن لكل تلك التطورات إلا أن تلقي بثقلها على الأوضاع المعيشية للمواطن الروسي، مع ارتفاع الأسعار والاتجاه إلى تقليص برامج خدمية. وأسفرت قرارات الكرملين بمواجهة العقوبات الغربية عبر مقاطعة المواد الغذائية المستوردة من الغرب عن تفشي ظاهرة الاحتكار مجدداً وفقدان السلع من الأسواق، ناهيك عن الصعوبات الناجمة عن محاولات تعويض السلع المفقودة بأخرى محلية أو من بلدان «صديقة»، فيما تصاعد الفساد الذي يعد أصلاً «أم الآفات» في روسيا.

ضربة النفط

في هذه الأجواء، وجدت الحكومة الروسية نفسها أمام واقع غير مسبوق، فهي خسرت اكثر من ثلث عائداتها بسبب العقوبات وتراجع أسعار النفط، الكارثي بالنسبة إلى روسيا، التي تعتمد على صادرات المواد الخام بأكثر من 70 في المئة من دخلها الوطني، وعلى رغم ان التركيز في علاقات روسيا مع الغرب يكون عادة على صادراتها من الغاز الطبيعي بسبب اعتماد أوروبا على ثلث حاجتها من الغاز على روسيا، لكن النفط يشكل العماد الرئيس لصادرات روسيا، ما يفسر الآثار الكارثية التي خلّفتها الضربات المتلاحقة مع تراجع أسعار النفط، ودفعت الحكومة إلى إعادة الحديث عن الحاجة إلى تنويع مصادر الدخل، وتقليص الموازنة للتكيف مع الواقع الجديد، علماً أن الموازنات الموضوعة للأعوام بين 2014 و2016 (تقر روسيا موازنة عامة لثلاثة أعوام وتُجرى مراجعتها جزئياً كل عام) قامت على تقدير لسعر برميل النفط يراوح بين 105 و95 دولاراً، ما يعني ان وصول الأسعار إلى حافة 60 دولاراً أفقد الموازنة اكثر من ثلث عائداتها، ناهيك عن الخسائر الناجمة عن تأثر القطاعات الأخرى بالوضع الجديد على خلفية العقوبات وحال الجمود.

على هذه الخلفية القاتمة، جاءت رسالة بوتين السنوية أمام الهيئة الاشتراعية، لتركز على الوضع الاقتصادي بالدرجة الأولى بدلاً من ان ترسم كما جرت العادة سنوياً، ملامح السياسة الروسية على الصعيدين الداخلي والخارجي لعام مقبل. وبدا واضحاً ان الكرملين يسعى إلى محاصرة التداعيات الاقتصادية المؤلمة في أسرع وقت ممكن، خصوصاً من خلال تركيز بوتين على برنامج واسع النطاق لـ «تحرير الاقتصاد الروسي»، فهو اقترح إصدار عفو عام عن رؤوس الأموال العائدة من ملاذات ضريبية، وإعفاءات ضريبية لقطاع الأعمال الصغيرة، غير ان خبراء الاقتصاد يرون ان جزءاً من هذه المبادرات تأخر بعض الشيء.

حدد بوتين هدفاً رفع مستوى الاستثمارات في روسيا بحلول عام 2018 إلى 25 في المئة من حجم الناتج المحلي الإجمالي. وسعى الرئيس الروسي إلى توجيه رسائل مشجعة بهدف جذب الاستثمارات وتعويض الخسائر الكبرى. ومع القناعة بأن إقناع رؤوس الأموال الغربية بالعودة إلى الأسواق الروسية يبدو أمراً صعباً في ظل المواجهة القائمة حالياً بين روسيا والغرب، فضّل بوتين التركيز على الأموال الروسية المهربة إلى الخارج عبر قرارات العفو والتشجيع على إعادة رؤوس الأموال، وعبر تقديم «ضمانات أكيدة بأن أحداً لن يجر رجل الأعمال العائد إلى مختلف المؤسسات البيروقراطية، ولن يسأله عن مصادر حصوله على رؤوس الأموال». وإضافة إلى ذلك، فإن رؤوس الأموال العائدة إلى روسيا على أساس العفو العام، لن تخضع لضرائب إضافية..

+ -
.