الأيام الأخيرة من أسبوع باريس جمعت الماضي بالمستقبل

بانتهاء أسبوع باريس الأخير، انتهت دورة موضة ربيع وصيف 2015 التي استغرقت شهرا كاملا، تمخض عن الكثير من الاتجاهات، وشهد الكثير من التغيرات. من تقديم جون بول غوتييه آخر عرض أزياء جاهزة له، إلى انتقال بيتر كوبينغ لدار أوسكار دي لارونتا، ممهدا الطريق لكي يأخذ مصمم دار كارفن، هنري غيوم، مكانه في دار نينا ريتشي. وطبعا أهم خبر تهامسته أوساط الموضة هو عودة جون غاليانو إلى عالم التصميم بعد غياب ثلاث سنوات. الفضل يعود إلى ميزون مارتن مارجيلا التي فتحت له بابها وسيقدم لها أول تشكيلة في موسم الهوت كوتير القادم، في شهر يناير (كانون الثاني). أما من حيث العروض فقد انتهى أسبوع باريس على نغمة عالية ومثيرة أسهمت فيها بيوت مثل لويس فويتون، هيرميس، فالنتنيو، سان لوران، وألكسندر ماكوين.

في دار لويسس فويتون مثلا كان العرض أقرب إلى رحلة استكشافية، فمنذ الوهلة الأولى أعطت الانطباع بأن مصممها، نيكولا غيسكيير سيأخذنا إلى المستقبل على متن مركبة فضائية، ليتبين سريعا أن هدفه كان مزاوجة الماضي والمستقبل في آن واحد. كان عرضا يخاطب شابة عصرية، بكل المقاييس، من دون أن ينسى إرث الدار وماضيها المبني على الجلود والإكسسوارات، والأهم من هذا على فن السفر، الذي يدخل في صميم جيناتها. لكن نيكولا غيسكيير لم يأخذنا إلى أماكن مختلفة أو بعيدة، بل تعامل مع فن السفر والرحلات كمحفز لأفكار جديدة، يستطيع من خلالها إبراز أسلوب جديد يميزه عن غيره.

إنه ثاني عرض له للويس فيتون، ورغم أنه امتداد لما قدمه في الموسم الماضي، إلا أنك تشعر كما لو كان الأول. السبب يعود إلى أن المكان الذي كانت تقيم فيه الدار عروضها في عهد مصممها السابق مارك جايكوبس تغير من «كور دي كاريه» باللوفر، إلى مؤسسة لويس فويتون الجديدة الواقعة في ضواحي باريس «بوا دو بولون». المبنى، الذي يقال إنه كلف الملايين، صممه المعماري فرانك غيري، وهو أصلا متحف من المقرر أن يحتضن معارض ولوحات من الفن المعاصر لبرنار أرنو، رئيس مجلس إدارة المجموعة الفرنسية «إل في آم آش» ولفنانين معاصرين آخرين.

أول ما يشدك في المبنى خرير الماء الذي ينساب من الجانب، وكثرة المرايا المتراصة على طول المدخل، ما لمس وترا حساسا بداخل الكثير من النرجسيين الذين يحبون التطلع لأنفسهم في كل ثانية أو التقاط صور «سيلفي» يرسلونها عبر الإنستغرام.

تتغير الصورة عند دخول قاعة العرض، حيث اختفى شلال الضوء الخارجي الذي كانت تعكسه المرايا والماء المتدفق، ليحل محله ظلام دامس لا تخترقه سوى انعكاسات أضواء من السقف تشعرك بأن من أمامك انعكاس لمرآة، قبل أن تتعود عيناك على الظلمة وتتعرف على الوجوه.

المكان، أو بالأحرى تصميم المبنى، أوحى لغيسكيير بفكرة رحلة فضائية لأنه، وحسب قوله، شعر بأنه فعلا في مركبة فضائية عندما زار المبنى لأول مرة. القاعة التي اختارها لعرضه توجد وسط المبنى، وأرادها أن تكون بمثابة بطن السفينة، حين كان زبائن لويسس فويتون من الطبقات الأرستقراطية يستعملون السفن لأسفارهم ولا يستغنون عن حقائب الدار.

بدأ العرض بمقطع فيديو قوي، ظهر فيه شاب وشابة على شاشات رقمية، تكلما بصوت مبرمج تقنيا أقرب إلى الآلي، عن البداية وعلاقتها بالزمن. لا تعرف ما إذا كانت هذه البداية ترمز إلى المؤسسة التي ستفتح أبوابها في الـ17 من الشهر الحالي أو إلى بداية نيكولا غيسكيير في الدار. ثم طلبا من الحضور الجلوس في السفينة، أو المبنى، الذي يتكون من 3660 صفيحة زجاجية و1500 طن من الفولاذ، والاستعداد للإقلاع لأن«لويس فويتون أرادت اليوم أن تكتشف إمكانية السفر إلى أي مكان من الكون من دون أن تتحرك من مكانها».

وهكذا بدأت الرحلة وتهادت العارضات على نغمات أغنية الثنائي سايمون وغارفانكل الشهيرة «ساوند أو سايلانس» (صوت الصمت)، برموش كثيفة وفساتين محددة على الجسم وقمصان بياقات عالية، وتنورات مستقيمة، وسترات بجيوب بألوان مختلفة، كما ظهرن بقطع أخرى من قماش المخمل، وكأن المصمم يريد أن يعيد لنا موجة الهيبيز بلمساته العصرية. سرعان ما تغيرت الفكرة المستقبلية وحلت محلها صورة مغايرة تماما، وما كان يوحي برحلة إلى المستقبل كان رحلة إلى الماضي، وتحديدا حقبة الستينات. ومع ذلك فإن كل ما في التشكيلة سيجعل المرأة تريدها في الصيف المقبل، لأنها بشخصية قوية تمزج الجرأة بالثقة وتزاوج الماضي بالمستقبل بأسلوب شهي. تشعر بأن هذه التشكيلة امتداد لأول تشكيلة قدمها في الموسم الماضي وعاد فيها إلى السبعينات، ربما لأن فكرته أن يستكمل ما بدأه، بجرعة أكبر من الثقة. ظهرت هذه الثقة في تنسيقه كنزة باللون الأخضر مع تنورة مستقيمة سوداء بفتحات عالية من الأمام والخلف، مثلا، وفي جاكيت «بلايزر» أزرق غامق مع بنطلون جينز قصير وقميص بياقة عالية، وفي بنطلونات واسعة وقصيرة في الوقت ذاته. هكذا تخرج من العرض وأنت مسحور بالمكان وعبقرية فرانك غيري في تصميم معلمة فنية جديدة، وأيضا مشدوه بذكاء المصمم في تقديم خزانة متكاملة بكل ما تحتاج إليه امرأة شابة من قطع منفصلة يسهل استعمالها ولفت الأنظار إليها في الوقت ذاته. طبعا لم ينسَ استعمال الجلود في بعض القطع وفي كل الإكسسوارات التي استعرضها، من الأحذية ذات الكعوب الملونة إلى حقائب اليد التي ستشعل نارا متأججة للحصول عليها.

إذا كان نيكولا غيسكيير ودار لويس فويتون يسجلان لبداية جديدة فإن دار هيرميس قدمت مساء نفس اليوم عرضا كان نقطة النهاية بالنسبة للمصمم كريستوف لومير. فهذا الأخير أعلن منذ فترة أنه سيتركها ليركز على خطه الخاص، الذي ينمو بسرعة وبات يحتاج منه إلى التفرغ التام. كان واضحا أنه أراد أن يترك طعما لذيذا في ذاكرة المسؤولين في هيرميس كما في قلب امرأة هيرميس، لأنه قدم واحدة من أجمل التشكيلات التي رأيناها في الأسبوع بهدوئها الراقي الذي لا يعلى عليه. سيقول البعض إن هذا ليس جديدا، وهو ما عودتنا عليه الدار الفرنسية العريقة، لكن كان هناك شيء مختلف في هذه التشكيلة، فقد صب فيها المصمم كل ما يتمتع به من فنية واستعمل فيها أترف أنواع الأقمشة ليقدم سيمفونية كلاسيكية لا تعترف بزمن ولا تشي بجاه صاحبتها بأحجام محسوبة خفف من غلوائها بشكل واضح. كانت الخطوط بسيطة دون تعقيدات تخايلت فيها العارضات على أرضية مغطاة بالرمل وكأنهن يؤدين رقصة البجع بثقة وخيلاء رغم الصنادل ذات الكعوب العالية. من أجمل ما بقي مرسوما في الذاكرة، فساتين على شكل قمصان طويلة باللون الأبيض مخرمة باللايزر، وجاكيتات قصيرة من الشامواه، وتنورات وفساتين طويلة تصل إلى الكاحل، من حرير الكريب، فضلا عن معاطف خفيفة تلف الجسم ولا تحدده. مثل دار لويس فويتون، يرتبط تاريخ هيرميس بالسفر والجلود، لهذا لم يكن بإمكان لومير أن يغض النظر عن هذه الخامة، حيث ظهرت عدة مرات، حتى في شورتات قصيرة. أما في ما يتعلق بالسفر، فهو لم يتوجه إلى الشرق الأقصى كما العادة، بل عرج إلى أفريقيا، حيث لمسنا ألوان الرمل والزعفران مثلا مع لمسات إثنية خفيفة جدا. ما يحسب لكريستوف لومير أنه، مثل مارتن مارجيلا، الذي عمل في الدار ويعود له الفضل في إرساء قواعد الترف الهادئ فيها، قادر على إبداع قطع كلاسيكية يمكن توريثها بسهولة، أما المأخذ عليه أنه لا يصرخ بأعلى صوته لكي يثير الأنظار إلى قدراته. والمقصود هنا ليس من خلال الأزياء، بل العروض التي تفتقد إلى الإثارة التي يتقنها غيره، ويشدون بها الاهتمام إلى عروضهم. هذا الهدوء يتناسب مع شخصيته وأيضا مع ما تريده هيرميس، لكن قد تحتاج خليفته، ناديج فانهي شيبولسكي، إلى تغييره بالتدريج لتحقق الموازنة بين الأزياء كمنتج واقعي وعملي يجب أن يدخل خزانة أية امرأة لها الإمكانيات لاقتنائها، وبين العرض كوسيلة لجذب الانتباه والحصول على تغطيات أكبر.

سارة بيرتون، مصممة دار ألكسندر ماكوين، من جهتها قدمت تشكيلة بنكهة يابانية قوية، تبدو امتدادا لما قدمته للرجل في الموسم الماضي، فقد ظهرت فيها إيحاءات مأخوذة من الساموراي وفتيات الغيشا والكيمونو، تارة في فساتين تشدها أحزمة قوية، وتارة في نقشات الورود التي تزين الكيمونو التقليدي. تجدر الإشارة إلى أن سارة بيرتون وقعت في سحر اليابان إثر زيارة قامت بها في العام الماضي، اكتشفت فيها كيف تكتسب الأزياء صبغة شخصية ذات قيمة عالية. هذه القيمة جعلتها تفكر في أن تقدم بدورها قطعا ذات قيمة تحرص المرأة على الحفاظ عليها مدى الحياة. لهذه الغاية، ركزت على التطريزات الدقيقة التي ارتقت بها أحيانا إلى مستوى الـ«هوت كوتير». فحتى إذا لم تأخذنا المصممة إلى رحلة مثيرة فإنها سجلت في هذه التشكيلة ذكرياتها في بلد بعيد سحرها بتاريخه وحرفيته وحرصه على تقاليده، الأمر الذي زاوجته بأسلوب دار ماكوين الذي يتقن مزج الجمال المتوحش بالأنوثة القوية.

ولأن الجمال نسبة فإنه بالنسبة للثنائي شيوري وبيير باولو بيكيولي مصمما دار فالنتينو يعني الحرفية والرجوع إلى التقاليد الإيطالية العريقة، ورغم أن غيرهما يمكن أن يقع بسهولة في مطب التقليدي والقديم، إلا أنهما ينجحان دائما في أن يُخرجا أنفسهما من هذا المطب ليبدو كل ما يخرج من أناملهما عصريا. وقد يعود نجاحهما إلى أنهما يسبحان ضد التيار، بمعنى أنه في الوقت الذي يستعمل فيه باقي المصممين تقنيات الديجتال للرسم والتطريز، يركزان هما على كل ما صنع باليد، ما يضفي على تصاميمهما قيمة أكبر. هذه المرة زينا الكثير من الفساتين بطبعات ورود ونقشات أرابيسك فضلا عن ما يشبه الباتشوورك، ومع ذلك اكتسبت كل قطعة جمالية فنية، بفضل الانتباه إلى التفاصيل الدقيقة من جهة، وإلى التصاميم التي جعلت الجسم يبدو منحوتا رغم أنها لم تكن تشده، من جهة ثانية. في المقابل، لم يتخلَّ هادي سليمان، مصمم سان لوران باريس عن أسلوب الروك أند رول، الذي ابتدعه منذ أكثر من عقد من الزمن، وأعاده منذ سنوات بأسلوب أكثر شبابية، أثار عليه غضب البعض. لكن يبدو أنه لم يرتدع ولا يريد أن يغير ما يؤمن به لإرضاء هذه الشريحة، لأنه عاد إلى نفس الأسلوب في تشكيلته الأخيرة، التي تضج بالحيوية وتصرخ بلغة شبابية، مع اختلاف واضح في الألوان. فهي هذه المرة أكثر توهجا كما أنها مطبوعة بنقشات متضاربة أحيانا. تصاميم الفساتين جاءت كالعادة قصيرة، كما ظهرت قطع مفصلة على الجسم، تستوحي خطوطها من التوكسيدو. ويبقى أهم ما في التشكيلة الإكسسوارات، بدءا من الصنادل العالية جدا والتي تستحضر سنوات الديسكو في السبعينات، إلى القبعات والعمامات المصنوعة بخامات وألوان متنوعة.

+ -
.