بقلم: فرح العاقل
لم يعد التضليل الإعلامي في سوريا مجرد أداة لتزييف الوقائع، بل تحوّل إلى صناعة متكاملة تُدار بعناية، وتُغذّى من مؤسسات رسمية، ومنصات رقمية، وشبكات مصالح داخلية وخارجية، هذه الصناعة لا تهدف فقط إلى طمس الحقيقة، بل إلى إعادة إنتاجها ضمن سرديات تخدم السلطة وتُربك الجمهور وتُقصي الضحايا.
ومن أبرز تجليات هذه الصناعة، حملات التحريض الطائفي التي استهدفت السويداء بشكل متكرر، وخلقت بيئة إعلامية مسمومة مهّدت لمغادرة طلاب السويداء جامعاتهم بشكل قسري، ولهجومين مباشرين على السويداء، كان آخرهما في تموز/يوليو الماضي، الأكثر دموية منذ عقود.
سبق الهجوم الأخير موجة تحريض ممنهجة، شارك فيها إعلاميون مقربون من السلطة، وصفحات موالية، وتقارير رسمية حاولت تصوير السويداء كمنطقة خارجة عن القانون، وكمأوى لـ”الفلول” و”الانفصاليين”، هذا الخطاب لم يكن بريئاً، بل كان تمهيداً لعمل عسكري دموي، فمنذ ١٣ و١٤ تموز/يوليو شنت قوات حكومية ومجموعات من العشائر المسلحة هجوماً منسقاً على قرى في الريف الشمالي والغربي من السويداء، بينها قرى اللوا والثعلة ورساس والمزرعة ونجران والمجدل، استخدم فيه السلاح الثقيل، ووقعت عمليات قتل جماعي وخطف ونهب، أودت بحياة مئات المدنيين، بينهم أطفال ونساء وأطباء ومحامون، ولا تزال مئات العائلات تجهل مصير أبنائها، وسط إنكار رسمي وتجاهل دولي.
في خضم هذا الإنكار، خرجت إيناس مطر ابنة داريا وشقيقة الشهيد غياث مطر، لتدلي بشهادتها عمّا جرى، لم تكن شهادتها تحليلاً سياسياً من الخارج، بل رواية من الداخل، من امرأة لم تغادر السويداء، وعاشت تفاصيل التحريض والهجوم، وقررت أن تتكلم.
في لقاء مصوّر مع شبكة الراصد، قالت بوضوح: “أهل السويدا هني أهلي، وأنا اليوم وبكرا وبعد مية سنة بقول أنا بنت هذا الجبل وبنت السويدا وبموت ما بطلع من هون”، وتحدثت عن التهديدات التي سبقت الهجوم، عن الأصوات التي سُمعت، عن الجثث التي لم تُسلّم، وعن الخوف الذي خيّم على المدينة، لم تكن تتحدث كناشطة بل كشاهدة، كواحدة من الناس، كمن بقيت حين غادر آخرون.
لكن رد الفعل على شهادتها لم يكن نقاشاً في مضمون ما قالت، بل حملة تخوين وتشويه ممنهجة. اتُّهمت بأنها “صالحت النظام الذي قتل إخوتها”، و”والدها تبرأ منها في منشور على الفيسبوك”، وتعرّضت لهجوم واسع على وسائل التواصل، شمل الإساءة لها ولعائلتها ولأخيها الشهيد أيقونة الثورة السلمية “غياث مطر”، وتشكيكاً في دوافعها.
الأسوأ أن “الصحفي” قتيبة ياسين في منشور على صفحته الشخصية، ادّعى أن إيناس “أسيرة في السويداء”، وأنه “يتم التحقيق معها بصيغة مقابلة صحفية”، في محاولة لتجريدها من شرعيتها، وتحويلها من شاهدة إلى ضحية صامتة، هذا الادعاء لم يكن فقط كاذباً بل خطيراً، لأنه يساهم في نزع الشرعية عن شهادتها، وفتح الباب أمام مزيد من التحريض ضدها وضد من يشبهها.
ما جرى مع إيناس ليس استثناءً، بل جزءاً من نمط متكرر، كل من يخرج عن الرواية الرسمية يُستهدف، ليس فقط بالتشكيك في أقواله، بل بالتشكيك في نواياه، في انتمائه، في وطنيته.
التضليل الإعلامي في سوريا اليوم لا يُدار فقط من داخل القنوات الرسمية، بل من خلال شبكة واسعة من الحسابات الوهمية والمواقع التابعة والمحتوى المفبرك.
هذه الشبكة تُستخدم لتضخيم الروايات الرسمية ومهاجمة الناشطين، وترويج تحليلات زائفة تُقدَّم على أنها دراسات مستقلة، في المقابل تُهمَّش المبادرات المستقلة، وتُحاصَر الأصوات التي تحاول التحقق أو التوثيق أو قول الحقيقة المغايرة للروايات الرسمية أو حتى طرح الأسئلة.
في بلد لا زالت تُكتب فيه الروايات الرسمية بالحبر الأمني، يصبح التوثيق فعل مقاومة، والسؤال عن الحقيقة فعلاً سياسياً بامتياز، شهادة إيناس مطر ورد فعل إعلام السلطة عليها، يكشفان أن المعركة لم تعد فقط على الأرض، بل على الذاكرة والسردية والحق في الكلام.
ما بعد تموز ليس فقط لحظة دموية، بل لحظة اختبار للصحافة المستقلة، للمنصات البديلة، وللجمهور نفسه، هل نقبل أن تُمحى الوقائع من السجل العام؟ هل نسمح بأن يُشوَّه صوت الضحايا؟ أم نعيد بناء سرديتنا، قطعة قطعة، رغم كل محاولات الطمس والتشويه؟ في سوريا، حيث الحقيقة تُحاصر، يصبح كل صوت حرٍّ ضرورة، وكل شهادة أمانة، وكل مقاومة للتضليل بداية لعدالة مؤجلة.