من مفارقات الاقتصاد الحديث إعلان شركة «أبل» الأميركية تحقيق أعلى أرباح لشركة عامة في تاريخ الشركات، إذ بلغ دخلها في الربع السنوي المنتهي في 27 كانون الأول (ديسمبر) الماضي 74.6 بليون دولار، في مقابل 57.6 بليون للفترة ذاتها من عام 2013. فيما أعلنت فيه معامل «فوكس كون» الصينية المصنعة لهواتف «آي فون» وأجهزة «آي باد» نيتها خفض قوتها العاملة البالغة 1.3 مليون عامل إلى نحو مليون.
وفي وقت حققت شركة «أبل» أرقاماً قياسية، برزت مشكلة استعداد المصانع العاملة لمصلحتها لتقليص قوتها العاملة واستبدالها بروبوتات حديثة. هذا الغزو التكنولوجي بات يقلق معظم الدول الصناعية خصوصاً الطبقات المتوسطة والعاملة، التي أصبحت تشعر أن العالم أمام مرحلة جديدة شبيهة بالثورات الصناعية مطلع القرن الماضي، لدى اختراع ماكينات النسيج والكهرباء والسيارات، التي قضت على عدد كبير من الوظائف.
وعلى سبيل المثال، أعلنت شركة «هوي تن بوش» اليابانية نيتها افتتاح فندق في تموز (يوليو) المقبل غالبية العاملين فيه من الآليين، في حين تواصل شركة «غوغل» اختباراتها لإنتاج سيارة تقود ذاتها، وتبعتها في ذلك شركات سيارات كبيرة مثل «مرسيدس» و«تويوتا»، وهي تتسابق في ما بينها للتوصل إلى هذا النوع من التقنية.
وكان سائقو التاكسي في الولايات المتحدة شنوا حملات معارِضة ضد شركة «أوبر» التي تسمح للزبائن باستخدام الهواتف الذكية والتواصل مع أي شخص يرغب في نقل ركاب، في مقابل أجرة تحددها المسافة وزمن الرحلة. لكن حتى «أوبر» قد تصبح من دون عمل يوم تغزو السوق السيارات الإلكترونية العاملة من دون سائق، إذ يتوقع اقتصاديون كثر أن وصولها إلى الأسواق بات مسألة وقت.
وكانت مؤسسة «غارتنر» للبحوث رجّحت الخريف الماضي، حلول الروبوتات والطائرات من دون طيار (درون) بدلاً من قطاعات واسعة من العمال، ما يؤدي إلى انخفاض عددهم في الولايات المتحدة بنحو الثلث عام 2025. وتعمل دوائر فرض القانون مثل الشرطة، على اختبار طائرات «درون» لإجراء دوريات مراقبة في الأماكن النائية أو المناطق الخطيرة أو الشواطئ والحدود الشاسعة، وهو عمل كان يتطلب فرقاً تضم عدداً من رجال الأمن. لكن بات يمكن حالياً عاملاً واحد مراقبة مساحات واسعة، وطلب دوريات أمن أو إطفاء وفق ما تقتضي الأوضاع.
وكانت شركة «أمازون» أيضاً أعلنت اتجاهها إلى بدء استخدام طائرات «درون» لإيصال بضائعها للزبائن قبل عام 2018، ما يدفع إلى تقليص ساعات عمل موزعي البريد في الولايات المتحدة وعددهم. وكانت المصارف بدأت منذ فترة استبدال عامليها بماكينات السحب الآلي، واستبدلت العاملين على الهاتف بماكينات ذكية تخاطب الزبائن. ودفعت هذه الإجراءات المصرفية إضافة إلى الخدمات الإلكترونية، المصارف إلى إقفال عدد كبير من فروعها ودمج بعضها الآخر.
وتوقعت «غارتنر» أن توكل وظيفة من أصل ثلاث إلى برامج كومبيوتر وماكينات ذكية في غضون 10 سنوات. هذه البطالة التي تلحق بالعمال تساهم في تعميق الفجوة بينهم وبين أصحاب رأس المال، وهو الموضوع الذي تطرق إليه الكتاب الشهير «رأس المال في القرن الواحد والعشرين» للاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي.
وأكدت مؤسسة «أوكسفام» وجود هذه الفجوة في تقرير لها الأسبوع الماضي، أي أن «الواحد في المئة الأغنى من سكان الكوكب سيملكون أكثر من نصف ثرواته مع حلول العام المقبل». وأشارت إلى أن «الأثرياء يسيطرون على قطاعين مربحين هما المال والدواء (بسبب حصرية الملكية الفكرية)». ورصدت «نمو ثروات أصحاب البلايين من المستثمرين في قطاعي الدواء والصحة بنسبة 47 في المئة، وأنفقوا نصف بليون دولار عام 2013، على أجور شركات اللوبي التي يشغلونها في واشنطن وبروكسيل لحماية امتيازاتهم، ما يحرم الفـقـراء عـدداً من الأدويـة الأساسيـة لارتـفاع سعرها واستحالة تصنيع أدوية شبيهة لها.
وقدم التقرير عدداً من التوصيات لمواجهة موجة البطالة العالمية المتوقعة، منها أنّ على حكومات العالم «الاستثمار في قطاعي الصحة والتعليم وتوفيرهما للمواطنين بأسعار زهيدة، لأن التعليم هو أحد أبرز الوسائل الممكنة لرأب الصدع بين الفقراء والأغنياء، ويمكنه أن يطور قوة الكوكب العاملة التي ستخسر الكثير من وظائفها بسبب التقدم السريع والرهيب في التكنولوجيا.
ويقول البروفسور في الاقتصاد في جامعة نوتينغهام اندرو وايت «يجب أن تأتي الحلول لهذه المعضلة من الاقتصاديين، لكن دوائر الاقتصاد في الجامعات تعاني مثل بقية دوائر العلوم الاجتماعية من ندرة التمويل، ما يدفع الأكاديميين إما إلى تحويل أنفسهم إلى مستشارين لشركات كبيرة أو إلى أحضان دراسات العلوم المعروفة بـ «ستيم»، أي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات».
ويؤكد في مقالة في صحيفة «واشنطن بوست»، أن العالم «يحتاج إلى أفواج من الأكاديميين الاقتصاديين لدرس أثر «الاقتصاد الرقمي»، الذي بشر كثر بمساهمته في تقليص الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فيما تسبّب وعلى مدى العقدين الماضيين أي منذ بدء انتشار الانترنت، بتوسيع هذه الفجوة. ولم يمنع «الاقتصاد الرقمي» الولايات المتحدة من السقوط في أكبر أزمة اقتصادية عانت منها منذ ثلاثينات القرن العشرين.
التغييرات في التكنولوجيا وسوق العمل تثير الذعر لدى كثر، وتدفع الاقتصاديين إلى دق ناقوس الخطر. لكن يبدو أن الحكومات الغربية، المثقلة بالديون بسبب أزمة عام 2008، لا تزال عاجزة عن التكيف مع الواقع الجديد، وهي بالكاد يمكنها تحمل تكاليف تطوير قدرات قوتها العاملة وتأمين الاستشفاء الصحي المطلوب لها.
لكن يمكن أن تضطر هذه الحكومات إلى القيام بهذا الدور، لأن من شأن الأعداد الكبيرة من العاطلين من العمل وكذلك المتقاعدين في مجتمعات تشيخ، التأثير سلباً في الدخل الضرائبي لهذه الحكومات والتسبّب باهتزاز الأمن الاجتماعي.