لجأ الناس إلى استخدام الخل منذ قديم الزمان، ويعود ذلك إلى آلاف السنين قبل الميلاد، أي إلى بدايات استخدام ثمرة العنب لغايات متعددة، إذ إن كلمة خل بالإنجليزية (Vinegar).
الدراسات المتوفرة تشير إلى أن بدايات الخل كانت مع البابليين في العراق حيث كان ينتجه الناس إلى جانب الكحول من عصير التفاح المخثر المعروف بالسايدر – cider والتمر ويستخدمونه لتحسين طعم الأكل إلى جانب البهارات ولحفظ الطعام ولتخليل المواد الأخرى، كما يحصل حاليًا في كثير من المجتمعات الشرقية والمتوسطية.
وقد بدأت عمليات إنتاج الخل على نطاق واسع ولغايات تجارية أيضًا أيام البابليين في عام 3000 قبل الميلاد.
وكانت القبائل الصحراوية آنذاك تصنع من الخبز أو بالتحديد خبز السفر، الخل للغايات نفسها التي كان يستخدمها البابليون، أي تحسين طعم الأكل، خصوصًا الحبوب واللحوم والخضراوات المتوفرة.
وقد جاء ذكر الخل في العهدين القديم والجديد في إنجيل الملك جيمس نحو تسع مرات، وحسب الإنجيل كان الخل يُستخدم لتطرية الزيتون لتخليصه من بذوره في إشارة إلى قدراته التذويبية.
وفي المسيحية يلعب الخل دورا كبيرا في حياة المسيح كما يؤكد إنجيل متى، ويقول الأنبا بيشوي في كتاب «المسيح مشتهى الأجيال»: «لما وصلوا إلى المكان المعروف بالجلجثة، وهو الذي يدعى مكان الجمجمة، أعطوا يسوع (خلاً ممزوجًا بمرارة ليشرب. ولما ذاق، لم يرد أن يشرب) (متى27: 34).
كانت العادة أن يشرب المحكوم عليه بالصلب كمية كبيرة من الخل الممزوج بالمرارة، وذلك قبل أن تبدأ عملية دق المسامير الرهيبة في يديه وقدميه.
كان المقصود بذلك هو تخدير أعصاب المصلوب لتخفيف شعوره بالآلام المبرحة، أثناء ثقب يديه ورجليه بالمسامير الضخمة التي تخترق الجلد واللحم والأعصاب، وتخترق الأربطة التي تضم عظام المعصمين والقدمين. وكذلك لتخفيف شعوره بالألم أثناء تعليقه على الصليب، إذ يصير جسده بكل ثقله محملاً على جراحات هذه المسامير.
ولما ذاق السيد المسيح هذا المزيج المخدّر، امتنع عن الشرب، لأنه أراد أن يتحمل الآلام كاملة بلا مخدر».
ويقول المؤرخ ويل ديورانت مؤلف سلسلة «قصة الحضارة»، نقلاً عن الخطيب الروماني شيشرون أن «الصلب يُعتبر أقسى طرق الموت الرومانية وأكثرها ابتكارًا، فبعد أن يُجلد المحكوم عليه يتحول إلى كتلة لحم متوهجة ثم يثبت على الصليب بمسامير في اليدين والرجلين ويترك على هذه الحالة حتى يموت، وقد تعّفن جسده أو قامت الحشرات والطيور بالاستيطان به، وقد كان الجنود عادة يقومون بتقديم الخل للمحكومين، وهو نوع خمر رخيص، حتى يسكر المحكوم فيخفف ذلك من آلامه، هذا ما يتفق مع الأناجيل الأربعة».
وكان يستخدم الخل بشكل عام قبل الميلاد كمشروب لزيادة الطاقة عند الأفراد والجنود وتحسين طعم الأكل كالعادة، وكمادة طبية لعلاج الكثير من المنغصات الصحية.
وعن هذه القدرات، ونقلاً عن المؤرخ الروماني الطبيعي بليني الأكبر، يقال إن الملكة كليوباترا ربحت رهانا مع مارك أنطوني وذوبت إحدى دررها التي كانت ترتديها في الخل وشربتها، لكن الكثير من المؤرخين يشككون بصحة القصة لأسباب كثيرة أهمها عجز الخل عن تذويب الدرّ. ومن هذه الخرافات أو القصص التي تتحدث عن قدرات الخل الخرافية، كان الرومان يعتقدون ويؤمنون (ومنهم تيتوس ليفيوس أحد أهم المؤرخين الرومان)، بأن هنيبعل استخدم الخل عام 218 قبل الميلاد لتذويب الصخور التي أعاقت تقدمه أثناء زحفه نحو روما من صوب جبال الألب قديما.
وحسب المخطوطات القديمة في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، يبدو أن الناس لجأوا إلى استخدام الخل في المطبخ تقليديا لتحسين طعم الأكل وعمليات التخثير وللعلاجات الطبية، خصوصًا مساعدة الجهاز الهضمي وتضميد الجراح وتطهير جروح الجنود من الالتهابات أو منع التهاباتها (استخدم الأميركيون خل عصير التفاح لمعالجة جروح الجنود أثناء الحرب الأهلية).
* الفراعنة
وأيام الفراعنة وقبل 3 آلاف سنة تقريبًا، استُخْدِم الخل لتخليل الخضار، وكعملة لدفع المستحقات المالية للبعض، كما كان يفعل الرومان مع الملح والجنود لاحقًا.
وقد عُثِر على مخطوطات من أيام رمسيس الثاني، تشير إلى أن عمال قرية دير المدينة قبالة الأقصر كانوا يقبضون مقابل أعمالهم جِرارًا من الخل.
وتؤكد المعلومات المتوفرة أن الخل في فلسطين ومصر القديمة كان يُحضّر من العنب والتمر المخثرين، وكان الخل المحرم في الناصرة يستخدم في تحضير مرق أو صلصات السلطات وأطباق الملفوف واللفت، كما كان يتم نقع الخبز بالخل المخفف قبل أكله، وأحيانًا لتخليل اللحم والخضار، كما هو الحال في الكثير من المجتمعات القديمة. مهما يكن فإن الخل لم يكن في مصر القديمة على الأهمية ذاتها التي أولاها له البابليون وأهل اليونان.
* اليونان القديمة
وفي اليونان القديمة، كان الطبيب أبقرط أبو الطب 400 قبل الميلاد يستخدم الخل لكثير من العلاجات، وعلى رأسها علاج النزلات البردية و«القحة» وتنظيف الجسم ومساعدة الجراح على الالتئام بعد خلطه بالعسل. وكان أبقراط يفضل الخل المصنوع من عصير التفاح. ولا يزال يستخدم الخل في اليونان ومنذ قديم الزمان في المطبخ كإحدى المواد الأساسية، ولا يمكن تناول السلطة اليونانية التقليدية (خارياتوكي) من دون الخل (بندورة وخيار وبصل وزيت الزيتون وجبنة الفتة والخل). ويستخدمها بعض اليونانيين في تحضير بعض الأطباق التقليدية كطبق الـ«تزاتزيكي» (لبن وخيار)، وشوربة العدس وأطباق المأكولات البحرية. وبكلام آخر يستخدم اليونانيون الخل في الأطباق التي تقل فيها الحموضة، والتي لا تحتاج إلى البندورة أو الحامض.
* روما
استخدم الرومان الخل على نطاق واسع أيضًا، وعلى نطاق تجاري، وكانوا يخلطونه بالماء أحيانًا وأحيانًا بالماء والبيض، وكانت الخلطة الأخيرة تعرف بـ«البوسكا» posca وكانت مشهورة في أوساط الجنود الرومان والعبيد الذين كانوا يشربونها.
كما كان الرومان يصنعون عدة أنواع من الخل من عصير التفاح والتمر والتين وعدد آخر من أنواع الفاكهة.
وجاء ذكر الخل وتفاصيل صناعته وسبل تحضيره بالتفاصيل في كتب كاتو الكبير Cato في القرن الثالث قبل الميلاد، كما جاءت تفاصيل أخرى في كتب لوسياس كولوميلا الذي يعتبر أهم الكتاب في عالم الزراعة أيام الإمبراطورية الرومانية في القرن الأول قبل الميلاد. ويشير لوميلا إلى استخدام الخميرة والتين المجفف والعسل والخل معًا. وذكر بليني الأكبر الخل بالطبع كثيرا، وكان من المعجبين به والمحبين له.
* الصين
تؤكد الحفريات أن الصين استخدمت الخل بكثرة منذ 3 آلاف سنة وخصوصا الخل المصنوع من الأرز، أي خل الأرز، الذي يستخدم بكثرة هذه الأيام في المآكل الآسيوية ومنها الصينية والتايلاندية واليابانية. وهناك مخطوطات تذكر الخل في الصين يعود تاريخها إلى عام 1200 قبل الميلاد.
وعلى ذكر آسيا، كان طبقة محاربي الساموراي المعروفة يشربون خل الأرز بشكل متواصل لما فيه من فوائد جمة على صعيد إمداد الفرد بالطاقة والقوة.
* أنواع الخل
هناك كثير من أنواع الخل حول العالم وأهمها: سبيريت فينغر – spirit vinegar المصنوع من قصب السكر، وديستيلد فينغر distilled vinegar الذي يُنتج من تكرير الكحول في أميركا الشمالية ويعرف بالخل العذري virgin vinegar، وأحيانًا بالخل الأبيض، وخل التمر الذي يكثر إنتاجه في البلدان العربية والصحراوية، وخل جوز الهند الذي ينتج من ماء الجوز المخثر، ويُستخدم في مطابخ دول جنوب شرقي آسيا، وخل البيرة الذي يُنتج بكثرة في أوروبا، خصوصًا بريطانيا وألمانيا والنمسا وهولندا، وبلساميك فينغر Balsamic الإيطالي الذي يأتي من منطقة إيمليا، وهو كما هو معروف من أفضل أنواع الخل المعمرة، وخل التفاح الذي يعتبر من أكثر أنواع الخل إفادة للصحة، والخل الصيني الأسود المصنوع من الحنطة والأرز الذي عادة ما يُخلط بالسكر والبهارات، وخل الفاكهة الذي يحضر عادة من التفاح أو التوت أو السفرجل أو البندورة، وخل العسل وهو من أنواع الخل النادرة التي تُنتَج في إيطاليا وإسبانيا ورومانيا وفرنسا والبرتغال، وخل دمع أيوب الذي يُنتج من عشبة دمع أيوب، أو حب الكواكس في اليابان، وخل الكيوي الذي يُنتج من ثمرة الكيوي، وخل الرمان الذي يستخدمه اليهود بكثرة لتحضير المأكل واللحوم، وخل العنب العربي الذي يُستخدم في الدول العربية، وخل الأرز الذي يُستخدم بكثرة في دول جنوب شرقي آسيا، ومتوفر بألوان الأبيض والأحمر والأسود، وخل الكرز وهو أيضًا من أنواع الخل الفاخرة.
* استخدامات الخل
يُستخدم الخل في الكثير من الأمور، خصوصًا في المجالات الصحية والتنظيف والعناية بالحدائق والتخلص من الروائح الكريهة. ومن هذه الاستخدامات التي لا تُحصى ولا تعد، إبقاء الأزهار إلى فترة أطول، بإضافة الخل والسكر، وإزالة ورق الجدران، وغسل اليدين من الإسمنت، والتخلص من رائحة الطلاء عبر ترك صحن منه في الغرفة.
ويمكن أن يُستخدم الخل للتخلص من الصدأ وتطهير فلاتر مكيفات الهواء على ما تقول مقالة طويلة ومهمة في موقع «جدران عربية».
وتصف المقالة أكثر من 70 فائدة للخل بالتفصيل، منها: رش بيوت النمل للتخلص منه في المنزل والتخلص من الحشرات خلال الشواء في البرية، عبر وضع وعاء من الخل قرب الطعام، والتخلص من الأعشاب غير المرغوب فيها بين الصخور والحجارة، وإبعاد الحيوانات عن الحديقة خصوصًا القطط والكلاب، عبر وضع منشفة مبلَّلَة بالخل على الأشجار، ومعالجة النباتات المريضة عبر رشها بالخل.
أضف إلى كل ذلك التخلص من بقع الزيت على الجلد وإعادة شد الملابس الصوفية المنكمشة، وتنظيف المكوى، وتفادي الكيّ عبر رش الملابس بالخل والماء (3 أكواب من الماء مع كوب من الخل)، والتخلص من صفار الملابس البيضاء وتبيض الغسيل بشكل عام وتعقيم الملابس وتنظيف الغسالة وتنظيف الحمام والمراحيض بشكل عام وفتح ثقوب الدش